الخميس، 22 ديسمبر 2016

الثقافة الشعبية بالهقار من خلال كتابات الرحالة الأوروبيين

د. رمضان حينوني

 مخبر" دراسة الموروث العلمي والثقافي لمنطقة تمنراست"
المركز الجامعي لتامنغست (cu11O1)

ملخص البحث:
        [تتناول هذه الدراسة رؤية بعض الرحالة الأوروبيين إلى التراث الشعبي بمنطقة الهقار، وما ميزها من عجائبية أملاها اختلاف هذا التراث عن الثقافة الأوروبية من جهة، وعن قسم مهم من عناصر الثقافة العربية التي يعيش في إطارها من جهة أخرى. وتركز الدراسة على وجهات نظر رحالتين حول الثقافة التارقية وبخاصة ما تعلق منها بالشعر والموسيقى المرتبطين بالمرأة على وجه الخصوص، يتعلق الأمر بالفرنسي لوي بيلاط والإيطالي أتيليو غوديو.]
الكلمات المفتاحية: الهقار. التراث. الثقافة الشعبية. العجائبية. الموسيقى. الشعر. المرأة التارقية. الرحالة الأوروبيون.

تمهيد:
لكل مكان في هذه المعمورة تاريخه وتراثه وخصائصه التي تميزه، يصمد بعضها في وجه الزمن، ويصبح بعضها الآخر أثرا بعد عين، يسكن الذاكرة الشعبية، وبطون الكتب دون أن يجد في الحياة المعاصرة من يجسده أو يمارسه، لأن الحياة المعاصرة تأبى إلا أن تطبع الناس على صورة حياة معينة يعد الخارج عنها موسوما بالتخلف أو البدائية أو ما شابه هذه الأوصاف.
وعلى الرغم من الإيمان بتغير الأحوال وتطور الأزمنة، فإن الثقافة الشعبية تحيا في وجدان الإنسان، وتربطه دوما بجذوره وماضيه، فتكون مصدرا لكثير من التوجيهات والسلوكات التي يجب أن تبقى مصاحبة للمجموعة البشرية التي تنتمي إليها. ونحن نرى كم يحن المرء إلى تلك الثقافة كلما وجد لذلك مناسبة، ذلك أنها جزء منه، يحن إليها ويحييها فيفرغ عبرها شحنة من الذكريات والرؤى بحسرة حينا وبشوق حينا آخر.
أما نظرة الإنسان إلى ثقافة الآخر فنظرة فضول واستكشاف، تتخللها غرائبية تارة وعجائبية تارة أخرى، لأن مادتها قد تختلف أو تتناقض مع مادة الثقافة الأصلية، غير أن الاحترام يظل السلوك الحضاري الذي على المرء أن يتحلى به حيال ثقافة الآخرين. وهذا ما نجده في أغلب كتابات الغربيين حول منطقة الهقار بصرف النظر عن موقفنا من بعض ما نقلوه أو كتبوه .
ولا يمكن في هذه الورقة أن نحيط بكتابات الغربيين جميعهم ممن زاروا الهقار وكتبوا عنه، لكننا نأخذ بعض نماذج، لعلمنا أن تشابها كبيرا في الرؤى قائم بين مجموع هؤلاء، وبخاصة إذا علمنا أن أغلبهم اختاروا الإقامة بين أهالي المنطقة ومعايشة بيئتهم وتقاليدهم، فكان نقلهم لما شاهدوه يكاد يكون متطابقا، يتعلق الأمر بكتاب (حضارات الصحراء) لأتيليو غوديو ((Attilio Gaudio، وكتاب(تاريخ تاظروك*) للوي بيلاط المعروف باسم الأخ عبد الله (Frère Abdallah).

الاكتشاف والعجائبية:
ترتبط العجائبية بلحظة الاكتشاف الأولى على الأخص، قد تمتد إلى لحظات تقصر أو تطول، لكن ميلادها يتزامن ولحظة اكتشاف الشيء، ذلك المختلف الغريب الذي يصطدم بالصورة التي ثبتتها الأيام والسنون في أذهاننا، خصوصا إذا كان الإنسان يعتقد أن الكون بما احتواه هو نموذج لما يعيشه في بيئته وبين قومه، وأن ما لديه هو ما يجب أن يكون لدى غيره ممن لا يشاطرونه المكان والبيئة والثقافة.
والإحساس العجائبي ليس غريبا عن الفكر الأوروبي في نظرته إلى العوالم الأخرى التي اكتشفها، وربما كان للشعور القديم عنده بالتفوق وصناعة الأشياء دور أساس في بلورة مثل ذلك الإحساس؛ حين تتحول الحياة الأوروبية إلى مقياس أو مثال في مختلف مراحل تطورها، فيوصف الآخر بشرا أو كائنا أو شيئا بالغريب والعجيب، ولقد كانت اكتشافات العالم القديمة خير دليل على ذلك، حيث اكتشف الأوروبي جزر المحيطات والقارات المختلفة ليجد حياة غير التي يحياها أو يتصورها، وشعوبا تختلف عنه في اللون والشكل ونمط الحياة والتفكير، فكان تعامله مع هذه الاكتشافات متفاوتا بين محاولة التعايش وسلوك الإبادة التي مست شعوبا بدائية كثيرة تحت أغطية عديدة.
كان هذا في عصور البحث عن النفوذ ومناطق الثروة والسيطرة، أين كانت السياسات الاستعمارية هي الدافع  لتلك الأعمال القاسية، بعدها شاهدنا فترة من مراجعة العلاقات بين الشعوب، أملتها القوانين الدولية والتقدم الحاصل على مستوى حقوق الإنسان، فتحولت تلك الممارسات الشائنة لدى الأجناس المتفوقة إلى كشوف علمية تحاول أن تستقرئ الأزمنة والأمكنة والطبيعة والإنسان للوصول إلى فهم الطبائع والعادات وأنماط العيش عند الشعوب المختلفة، بغية الوصول إلى ما يدل على أن هذا التنوع وذاك الاختلاف هما مما يعطي للحياة البشرية جمالها وتكاملها وانسجامها.
وهكذا، توجهت جهود الرحالة والمكتشفين في العصور المتأخرة، وخصوصا بعد استقلال أغلب الشعوب الصغيرة أو الضعيفة، إلى العلوم الإنسانية والاجتماعية لدراسة طبيعة وتفاصيل الحياة المقابلة لحياة التحضر والتمدن، فنالت كثير من الشعوب حظها من الدراسة بصرف النظر عن تقييمنا لها أو نظرتنا إليها وإلى مصداقيتها.
           ومن هذه الشعوب التي توجهت إليها الأنظار شعب الأهقار الذي حظي باهتمام بالغ، ترجمته عديد الكتابات التي أنجزت في الفترة الاستعمارية بأقلام المبشرين والآباء البيض، أو بعد الاستقلال بأقلام الرحالة والمستكشفين.

ببليوغرافيا حول الهقار:
نال الهقار شهرة عالمية بفضل عوامل عدة؛ منها طبيعته الخلابة بمرتفعاتها الصخرية ورمالها وطقسها، ومنها مكونه البشري الأمازيغي الذي يضرب بجذوره في عمق التاريخ، إضافة إلى طابع البداوة الذي حافظ على كثير من السمات العريقة في مخيال وسلوك الإنسان في هذه المنطقة. لهذا نجد مجموعة من الغربيين ولوا وجوههم شطر الهقار يستنطقون تاريخه وحضارته، وينقلون ما شاهدوه وعايشوه رفقة هذا الشعب البسيط من عادات وتقاليد وأساليب حياة.
من هؤلاء مثلا –إضافة إلى العلمين السابق ذكرهما- نجد: وأوديت برنزات (Odette Bernezat) في كتابها (رجال جبال الهقار) وهنري لوط( Henri Lhote) في عمليه: الأول موسوم بـ(طوارق الهقار)، والثاني بعنوان (الهقار: فضاء وأزمنة)، وروجيه فريسون روش (Roger  Frison-Roche)  في (نداء الهقار) و(خمسون عاما في الصحراء)، وكلود بلونقرنون (Claude Blanguernon) في (الهقار)، وفرانسوا دي شاسلو (François de Chasseloup) في كتابه (فن الكهوف في الهقار)، ومارافال بيرتوان Maraval Bertoin في (مسالك الهقار)، ودوشون جيرسي ( J.duchon) في (المغامرة الكبرى الأخيرة للطوارق)، فيليب رينييه (Philippe Régnier) في (طاغية الهقار)، وإيريك إيمانويل شميت (Éric-Emmanuel Schmitt)  في (ليله النار)، وجون كيرليف (kerlyve) في (ابن الهقار)، وغيرها.
هذه المؤلفات ليست كلها دراسات علمية أو أبحاثا أكاديمية، بل نجد بعضها يندرج تحت أدب الرحلة أو الأدب القصصي، فهي ترتكز بالأساس على ما يلاحظه ويسجله الرحالة من خلال معايشته لشريحة معينة من هذا المجتمع، غير أن هذا النوع من التأليف كان قاعدة أساسية لإطلاق أبحاث جادة، ودراسات اجتماعية وانثربولوجية ولغوية هامة مثلما توضحه أوديت برنزات في كتابها(رجال جبال الهقار) حين تقول:"بعد الاهتمام بالأرض أصبح سكان الهقار مادة للفضول العلمي الواسع من اللغويين وعلماء الأعراق والأنترويولوجيين الذين اهتموا بالبحث عن هوية التوارق[1]، ولم يتركوا شيئا جانبا، درسوا أشياء كثيرة في سبيل الوصول إلى النتيجة"[2].
ومع علمنا أن هذه الكتابات موجهة أساسا إلى الإنسان الغربي، فإن نظرتنا إليها وتقييمنا لها يجب أن تكون في هذا الإطار، الأمر الذي يدفعنا إلى القول: إن إعابة بعض ما جاء فيها لا ينفي قيمتها البالغة، وفضلها في تعريفنا بكثير من الجوانب الغائبة في تاريخنا.

العناصر الثقافية في الهقار:
المرأة ناقلة التراث:
       إن المرأة في مجتمع الهقار هي حاملة التراث وناقلته، بل هي محور الحياة الاجتماعية وأساسها. ويرى قوديو أن هذه السمة أدهشت العرب لكونهم لم يتعودوا على منح تلك الحرية لنسائهم في الحياة العامة.[3] ما جعل الأوروبيين ينطلقون في تفسير هذه الظاهرة من منطلق المقارنة بين المرأة التارقية والمرأة العربية. فالثانية عندهم خاضعة للتشدد الديني أو المحافظة إلى حد التقييد نتيجة للتعاليم الإسلامية الصارمة، أما الأولى فتتمتع بقدر عال من الحرية والانطلاق. وقد نقل قوديو هذه الصورة بقوله " المرأة التارقية أكثر ميلا إلى الدلال والجمال وهي سمة متطورة جدا رغم أنها بالنسبة لأوروبي قابلة للنقاش" [4] .
        ويرتكز تفسير الأوروبيين لمكانة المرأة المتميزة داخل المجتمع التارقي على كونه مجتمعا أموميا يعترف بأولوية (البطن على الظهر)، أي أن الانتساب والقرابة والجاه تكون من جهة الأم لا الأب، بينما في التعريف بالشخص فقط يتم الانتساب للأب فيقال: (فلان أق فلان) أي ابنه، أو (فلانة ولت فلان) أي ابنته، ويقفون بإعجاب عند بعض خصائص المرأة التارقية منها ما لحظه قوديو من أن:
-        رعاية الطفل وتربيته من اختصاص الأم دون الأب، لكونها أكثر تعلما وثقافة منه.
-        احتكار التارقية الكتابة بالتيفيناغ والقراءة بها، في وقت يميل الرجل إلى استعمال العربية، ما يعني أن الفضل في بقاء هذه اللغة القديمة جدا يعود إلى المرأة دون الرجل.
-       إن المرأن التارقية في الحياة العامة تترك الانطباع بكونها أكثر تطورا وذكاء من الرجل، ما حدا بالرجل إلى تغطية الوجه في حين تسفر فيه المرأة عن وجهها.[5]
 وقد نتج عن ذلك جملة من الخصائص المميزة للمرأة التارقية منها:
- الحرية التامة في اختيار زوجها، يتم ذلك عادة من خلال جلسات (تاغيلت)، وهي جلسات الشباب مع الشابات المقبلين على الزواج، ويتم فيها اختيار الزوج أو الزوجة، فهي جلسات تعارف عفيفة تذكرنا بجلسات عشاق العرب ومجانينهم.
- كونها صاحبة القرار الأول في كل ما يخص الأسرة أو العائلة من مشاريع وغيرها.
- في ظل تقسيم طبقي، تنصرف المرأة التارقية إلى الراحة والاطلاع، تاركة الأعمال للجواري والخدم .
- ولعُها بالفنون على مختلف أشكالها، من منسوجات وصناعة الحلي إلى الموسيقى والعزف، وعليه، فإنها القائمة على حفظ التراث والعمل على استمراريته.[6]
       ولقد جسدت المرأة ذلك واضحا من خلال سيطرتها التامة على الآلة الموسيقية، ومشاركتها الرجل في إنتاج عدد من القصائد أو المقطوعات الشعرية المرتبطة أساسا بحياتها الاجتماعية، وبعلاقاتها الأسرية.

الموسيقى التارقية:
في عمق الصحراء، وأمام موقد النار ووحشة الليل، يبدو العزف أفضل طارد للسأم والملل من نفس التارقي المتعب طول نهاره، لهذا يستكين في الليل لرقة أنغام إمزدا خاصة، هذه الآلة الساحرة التي تدخل الرهبة والمتعة معا إلى النفوس بأنغامها العاطفية الحزينة، والجو الشاعري الذي تطبع به الزمان والمكان.
وإمزدا آلة تشبه الربابة العربية بوتر واحد، وهي أشبه بصحن خشبي، يغطى بجلد الماعز، ويثقب بعض الثقوب لإحداث الصوت، ويخرج من طرفيه عودان يربطهما حبل من شعر الخيل، أما الجزء الثاني فهو آلة الدعك، وهي عود خاص في شكل هلال موصول طرفاه بحبل دقيق من شعر ذيل الحصان. وعليه فإن اسم الآلة هذه مشتق من أمزاد أي شعرة والجمع إمزادن.
 ولا يعزف عليها غير النساء عادة، ويعد إجادتهن العزف من علامات حسن التربية ونبل العنصر، ويصدر إمزاد أصواتا رقيقة، وتزداد قيمتها بالغناء الأميل إلى الامتداد الصوتي في غالب الأحيان، ولعله دلالة على امتداد الصحراء وطول لياليها. أما حضور جلساتها فيحرص كل تارقي عليه خصوصا إذا كان من ذوي النهى والعقول، لأن إمزدا رمز للنبل والشهامة، ما حدا بأحد الشعراء إلى القول :
اليوم الذي أموت فيه
لا بد أن تدفنوني في قطعة بيضاء
ناصعة من الكتان
مثل أوراق الكاغط
وتتصدقوا علي
بثلاث أغنيات من إمزاد
والفاتحة[7].
إن قيمة إمزاد عند هذا الشاعر كبيرة كما نرى، إلى درجة أنه جعلها مع الفاتحة شيئا عظيما يتصدق به، وجعل الأغنيات ثلاثا بدل الواحدة فكأنما يرى أن طول الأنس بإمزاد هو عزاءه الأكبر.
غير أن إمزدا ليست الآلة الوحيدة عند نساء التوارق، فهن يُعرفن أيضا بالتيندي، وهو طبل ضخم يصنع من إطار خشبي ويغطى بجلد الماعز الطري مشدودا بقوة، تجلس حوله امرأتان تشدانه من الجانبين، ثم تأتي ثالثة للضرب عليه، أما الرجال فينشدون ويغنون، كما أنه من الآلات التي تستقطب مجالس الشباب قصد التعارف.
وخلال جلسات التندي في الأعراس تمارس لعبة تسمى (تندي أَنْ اكرهي)، وأكرهي هو خمار أسود يوضع على رأس فتاة جميلة تختار بعناية، ويحاول أحد الفرسان ممتطيا جمله اختطاف الخمار من على رأسها، وإذا نجح في ذلك يطارده جمع من الفرسان الشباب لاسترجاعه، ومن ظفر منهم بذلك يصبح فارس أحلامها.
وتنقل برنزات هذا المشهد بقولها:" يطلب من رجل على جمله أن يسرق الخمار من رأس امرأة، وهذا أمر صعب جدا لأن النساء يخفن من الجمال، والجمال تخاف حشود النساء، والرجال يخشون السخرية في حال السقوط".[8]
أما (تهيقالت) فهي آلة غنائية نسائية مثل التندي بشكل دائري ومصنوعة من الخشب وجلد الماعز أيضا، يرقص الرجال على إيقاعاتها، وتغنيها العازبات أكثر من غيرهن لأن اسمها بمعنى العزوبية، كأنما تجعلهن يحلمن بالحياة الزوجية المقبلة السعيدة، أو تسمح لهن بالالتقاء بالشباب للتعارف قصد الزواج.
ويقول العارفون بالفنون التارقية أن جلسة الغناء لها طقوسها الخاصة تصل حد التقديس، كيف لا وقد كانت الوسيلة الوحيدة للترفيه في عمق الصحراء، وهي التي تجمع الأحبة والناس حولها للسمر والاستمتاع بالكلمة والنغم الجميل، بل هي التي تدفعهم إلى نبيل الأخلاق، وجمال العبر. وقد لاحظ أوتيليو قوديو أن "الحب هو الدافع الأكبر للشواعر والعازفات التارقيات، فالعواطف تثير شلالا من القوافي، والأغاني، والرجاء والحنين والحسرة القاسية، والعاطفة الجياشة والأحلام." [9]
بل يذهب قوديو إلى أبعد من ذلك، حين يصور سيطرة المرأة في مجتمع الهقار من خلال امتلاكها لسلاح الفن فيقول: "إن الشعر والإنشاد والعزف بإمزدا من الأشياء الأكثر أهمية في المجتمع التارقي، هذه الألة الموسيقية هي سلاح المرأة التارقية  الأكثر خطرا، فبه تستطيع فعل الكثير: تجعل الأخر يحبها، ويسمعها ويبحث عنها ويدعوها ويتودد إليها، وتستطيع خاصة أن تعاقب وتجعل الرجل يتوسل. وعلى العموم، فكل زوج أو عاشق  لا يتصرف بكرامة في فعل ما تنتابه الخشية من أنه عندما يدخل خيمتها فسترفض منحه أنغام إمزاد المسكرة. بل إن الأمل في إمكانية إسماع الرجل نغم هذه الآلة السحرية، يثير فيه الشجاعة ويجعله منصاعا وهادئا في علاقته بها. فأي تأثير للموسيقى على وجدان أولئك الذين نسميهم" لصوص الصحراء؟"[10] 
الشعر في مجتمع إيموهاغ:**  
         صحيح أن" المأثور الشعبي هو ابن البيئة، وهو انعكاس لمكوناتها الطبيعية وظروفها الجغرافية، متأثرة كلها بحركة التاريخ، والأحداث التي تؤثر في هذه البيئة فتضيف إليها، أو تحور فيها، وتتفاعل معها تفاعلا إيجابيا"[11]، والشعر أحد أهم عناصر المأثور الشعبي في مجتمع إيموهاغ والمجتمعات الشبيهة، ذلك أنه نقل لما شهدته الحياة البدائية من أحداث، وتسجيل لها في عبارات دقيقة، على الرغم من عدم قدرة الترجمة من نقل قيمها الفنية. لكن تداولها شفهيا لأزمنة طويلة دليل على أنها ذات بعد حكمي وجمالي كبير. فالإنسان عادة لا يستحضر من الماضي إلا ما كانت له قيمة، وما كان لذكره أثر سلوكي أو اجتماعي.
        ولقد تمكن بعض الرحالة الغربيين من نقل مجموعة من الأشعار التي سمعوها من أهالي المنطقة، وهي مرتبطة في غالبيتها بالحياة الاجتماعية والقضايا المعيشة، عند الرجل كما عند المرأة، فقد نقل عن الشاعرة التارقية قصائد لمناسبات مختلفة، مرتبطة بنشاطها اليومي، ووظيفتها الثقافية؛ إذ به تنيم طفلها، وتؤنس زوجها، وبه تجسد مآثر ومفاخر القبيلة. وهو عند الشاعر الرجل مدح وافتخار بالرجولة والقدرة على ممارسة الأعمال.
         يذكر لوي بيلاط أن عمة (الطالب خامة) ظلت بعد خمسين سنة قادرة على ترديد قصيدة نظمتها أم خامة مدرس القرآن في تاظروك، تقول فيها ما ترجمته:
يا فاطمة
كتبت قصيدة حول خامة
ذلك الذي كان يعتني بأمه ويهتم بها
لقد ذكرها في كل بلاد يزورها
أذكر زمنا  قال لي فيه أحدهم: خامة إسلام"
أعطيته ثلاثة أنصبة من اللحم
قبيلة "إكاوارن" سمعوا بالأمر
لقد رغبت عيناي رؤية خامة
خامة الذي أرغب في رؤيته أينما يكون.
يقرأ جزءا من القرآن، وأنا أسمعه
ولست صماء.[12]
        في مثل هذا المقطع تبدو الروح الإسلامية بارزة عند الإنسان التارقي، فهو يحترم معلم القرآن، ويربط ذلك كله بعلاقة الحب والاحترام التي تجمعه بمن حوله. فقيمة البر التي عكسها المقطع دليل على غلبة السمة الروحية في نفسه.
      ومن القصائد التي نقلها لوي بيلاط أيضا، قصيدة كتبها (بديدي أق حاج أخمد) كتبها في زوجة أبيه بمناسبة تقاعسها عن إعداد طعام لمجموعة شبان دعاهم إلى عمل جماعي:
أقول إن زوجة أبي ليست هنا
لقد أتينا بشباب ليعملوا
قلت لها: أسرعي أعدي لنا شيئا من الطعام..
أسرعت الخطى وفرت
كأنها لم تكن أما لهم
مع أنها تملك أطباقا كثيرة
لربما تملك قلبا باردا
لا تكلف نفسها حتى رؤية العمل الجميل الذي يؤدونه
ولا الذين يأتون لرؤيته
هذا الكلام أقوله لشات أمين"(فاطمة ولت أخمد).[13]
ولم يخل الشعر عند هؤلاء من المساجلات، مثلما نجده بين (شات أمين) و( بديدي) مثلا، ففاطمة ولت أخمد هذه قالت يوما: لقد ذهب (شاوي أخ براهيم أق حاج أخمد المدعو بديدي) وكل الرجال ذوي قيمة للبحث عن عمل باستثناء بديدي، لأي شيء بقاؤه؟ فأجابها بديدي قائلا:
قلت لها: يا فاطمة لا عليك
لدي عمة عزيزة تدافع عني اسمها ناتا
شعرها مضفر بتسريحة جميلة
أنها ذكية وصادقة
إذا لم تكوني سعيدة فنادي على شاوي
ناتا ليس لها عيون إلا لأجل بديدي
إنها تعرف أنه ابن ذو قيمة
إذا رأته في الطريق قالت: يعجبني !
يمكنك الاعتماد علي يا ناتا سأمنحك خبزا من سكر
وأوراق الشاي القديمة هذه .. أه يا صديقتي
وكذلك أعواد الثقاب لإشعال النار.[14]
    أما أوتيليو قوديو فيخبرنا بأنه خلال تواجده بين توارق طايتوك[15] عام 1952 سجل مجموعة أشعار لشابة عاشقة يائسة، منها مقطع يقول:
لا أريد أن يبصر دمعي
ولا أن يعلم مبلغ حبي
رغم اضطرابي كغزال
ورغم أن امزاد ينزلق من يديّ
انتظر، مثل صياد يطلب فريسته،
أن يجدني أخيرا.
لكن لماذا لا تأتي إلى خيمتي؟
فتجد لدفئك
قلبا يحترق لأجلك
كما الرمال المعرضة للشمس.[16]
       إن بساطة هذه الشعار وقرب موضوعاتها من الحياة اليومية يضفي عليها طابعا شعبيا خالصا، فهي من الكلام العفوي الذي يصور الأحاسيس دون تكلف أو زخرفة، غير أنه يعكس تنوع الصور الثقافية في البيئة التي أنتج فيها.

خاتمة:
        إن العناصر الثقافية التي عرضناها في هذه الورقة ليست سوى جزء مما يزخر به الهقار من تراث غني، فهذا المتحف الطبيعي المفتوح على العالم يحوي نفائس تراثية مادية وغير مادية، تنتظر من الباحثين أن ينفضوا عنها الغبار الذي ما زال يعلوها، على الرغم من الجهود التي تبذل في هذا السبيل، مستعينين بالدراسات التي تناولت المجتمع التارقي في بيئاته الأخرى (ليبيا ومالي والنيجر).
       ولا نستطيع إغفال حقيقة أن هذا التراث الثقافي قد خالط تراثا عربيا بفعل التواصل الديني والتجاري بين شمال الصحراء الكبرى وجنوبها، فأصبح الهقار نتيجة لذلك مركزا لثقافة لافتة، وسياحة نشطة، ومحط أنظار الدارسين من قارات مختلفة.
       وفي ظل النقص الفادح في كتابات الكتاب المحليين حول هذه المناطق الغنية بتراثها، تظل الكتابات الغربية في مختلف الميادين الثقافية مهمة وضرورية كمنطلق لدراسات يفترض أن تكون أكثر توسعا وتفسيرا وكشفا، وبخاصة من الدارسين التوارق أنفسهم بحكم معرفتهم لخبايا ورموز وشفرات هذا المجتمع الذي لا يزال شبه غامض، على الرغم من القواسم الكثيرة المشتركة بين التوارق وجيرانهم العرب.

 ملحوظة : نشر المقال في مجلة السياق - جامعة غرداية . العدد 1. 2016


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق