الاثنين، 1 فبراير 2016

نقد الأدب أم نقد الأديب..

بقلم: رمضان حينوني 
جامعة تمنراست -الجزائر
ramdanne@gmail.com

يحدث كثيرا ونحن نتصفح مواقع الإنترنيت المختلفة أن تقع أعيننا على انتقادات وآراء حول مسائل مختلفة، وطبيعي جدا أن يعبر كل قارئ عن نفسه في المسائل العامة والخاصة ، لكن عندما يتعلق الأمر بانتقاد الأشخاص ، فإن الحذر والحيطة ضروريان، ولا بد من الاحتكام إلى القواعد والأصول في النقد ومنها التبين و النسبية في الأحكام، والفهم الجيد للمنقود أو مادته محط الملاحظة.
ويمكننا أن نلاحظ أن شريحة من القراء ما تزال تتخذ من العواطف والقناعات الدينية والسياسية منطلقا فريدا لنقد الأدب. ولقد حصلت من أحد المواقع على هذه الردود إثر وفاة الشاعر السوري محمد الماغوط، أحب أن أنقلها كما وردت:
- هلك (الماغوط) وذاق حر الموت وشدته، وانتقل من الأمل إلى الأجل، وتحول من المطلع إلى المصرع، وضُرب بينه وبين شهواته بسور!
- نَفَقَ (الماغوط) بعد أن سبَّ العظيمَ الجبار، وتنقصَ الحبيبَ المختار، وبعد أن ادعى النبوة، وسخر من الكتاب والسنة !
- فَطَسَ (الماغوط) بعد أن أضل جبلا كثيرا من الشباب، وثلم أعراضهم، وأفسد عفتهم، ونشر فيهم الفحش والبذاءة، وبث فيهم القِحة وقلة الحياء!
- فتخلفُ الأمة وحِطتها،من أسباب (الماغوط) وشيعته، ومن سار على سبلهم من خُشارة الناس وسقطهم، من حداثيين وليبراليين! 1
إنه لمؤسف أن تكون الردود على هذه الشاكلة ، أبعد ما تكون عن روح النقد وجلال الموت. يمكن أن لا تكون لأصحابها علاقة مباشرة بالأدب والنقد، لكن الطريقة هذه في تقييم الأشياء عمت في وقتنا الحالي، وأصبحت عامل ضغط على الأدباء وإحباط لهم. وهذا النقد الانفعالي الانطباعي ليس جديدا في تاريخنا العربي، فلقد تعرض عدد من الشعراء قديما لمثل هذا بسبب فكرة عبروا عنها، أو لفظ وظفوه أو سيرة دأبوا عليها، ولم يشفع لهم شيء مما أبدعوه مقابل ذلك عند هذا النمط من القراء الذين يتتبعون السقطات ليشهروها، ولا يهمهم بعد ذلك أن يروا من ذات الشاعر حكمة بالغة أو رأيا سديدا أو تعبيرا جميلا.
إن العلاقة بين إنتاج الأديب وحياته الخاصة ما تزال تقيد كثيرا من القراء والناقدين عندما يعكفون على دراسة هذا النص أو ذاك، أو عندما يصدرون أحكامهم له أو عليه. لا أقصد بالطبع أصحاب التوجه النفسي أو الاجتماعي، لأن هؤلاء مهما تكن الملاحظات الموجهة إلى جهودهم، فهم يعتمدون منهجا علميا أو قريبا من العلمي في دراساتهم وبحوثهم، مما يعطي لما يتوصلون إليه شيئا من المصداقية. لكنني أعني أولئك الذين لا ينظرون إلى الإبداع والابتكار وقوة المعالجة إلا بمقدار ما يتطابق مع النموذج البشري الذي يريدونه، أو المثال الذي إن خالفه الأديب فهو في الهاوية، وإن أجاد.
وبالرغم من دعوة المناهج الحداثية إلى إبعاد النص الأدبي عن المؤثرات النفسية والاجتماعية، فإننا نرى أن دراسة حياة الأديب لا تضر بالنتائج المتوخاة من البحث دائما، فنحن لا ننكر دراسات اجتماعية ونفسية ساعدتنا بشكل واضح في فهم الإبداع لدى مجموعة من المبدعين العرب أو العالميين، ومكنتنا من تفسير ظواهر وألغاز اقترنت بنصوص حازت الشهرة والعالمية، فبدا النقاد وكأنهم المكتشفون لكنوز النصوص، فنالوا الشهرة التي نالها أصحاب النصوص التي اشتغلوا عليها، بل إن بعضهم اقترن اسمه بالأديب الذي درس أدبه.
لكن ذلك لا يتعدى نطاق العامل المساعد، إلى العامل الأساس، أي إن النص الأدبي هو المستهدف لا الأديب في شخصه. وقد أكد عز الدين إسماعيل في كتابه الشهير " التفسير النفسي للأدب" هذه الحقيقة حين أكد على أن خضوع النص الأدبي للدراسة النفسية يبعدها عن دائرة الأدب ويقربها من علم النفس، فعلى الناقد إذن أن يستعين بالتحليل النفسي لدراسة النص الأدبي لا العكس.2
ومع ذلك كله، فقد عيب على من انتهج هذا المنهج في الربط بين حياة الأديب وإنتاجه، انحرافهم في التفسير والتأويل، وتحميل النص الأدبي ما لا يحتمل وهذا الذي حدث مع طه حسين في دراسته عن المعري. والعقاد ومحمد النويهي في دراستهما للحسن بن هانئ (أبي نواس)، وغيرهما.
وليس بالضرورة أن يسقط الأديب دائما حاله النفسية أو الاجتماعية واعيا أو غير واع على موضوع نصه. وإلا فإنه سيكون عندئذ كمن يمشي في الشارع وينادي بأسراره في المارة فيضحكون منه أو يدينونه، أو إن تطلب الأمر يرشقونه باليد واللسان، لأن بعض ما سيقوله لا يتفق وما يريدون. ورغم إيماننا بأن النص ليس منفصلا تماما عن صاحبه، إلا أن ما يلفت الانتباه هو قدرة الأديب على جعل علاقته بالنص علاقة فنية جمالية، بحيث لا نشعر أننا نقرأ الأديب بل نقرأ الإنسان وإن كان بعض ما نقرأه يحيلنا إلى زاوية أو ركن من نفس ذلك الأديب.
ورغم كل ما سبق، فإن المناهج السياقية والنسقية معا أفادت الأدب، ولم تهاجم الأديب إلا بمقدار ما رأت من تقصير في التزامه بهذه المسألة الفنية أو الجمالية أو تلك المسألة الموضوعية أو القيمية. فنحن نذكر على سبيل المثال نقد أصحاب الديوان للمدرسة الإحيائية، وكيف أنه كان على شدته يدور حول التقليد والتجديد وما يتعلق بهما؛ ورغم ما تمخض عن" الديوان" من نتائج إصلاحية في الأدب والنقد، فقد بقي شوقي وحافظ والبارودي وأمثالهم شعراء كبارا يستشهد بشعرهم، ويطرب ويتغنى به.
إننا في زمان، تطورت فيه نظريات النقد وطرقه، بل تطورت فيه أخلاقياته أيضا؛ فلم يعد مسموحا للناقد أن يتجاوز قدرا في عمله يلحق فيه الضرر بمنقوده. كما أن النظرة إلى النص الأدبي نفسها باتت اليوم متعددة ومتقلبة، بحيث أنك تقرأ النص قراءة فتدفعك إلى انطباع معين، ثم تقرأها ثانية و ثالثة فتبدو لك كأنها ليست التي قرأتها من قبل.ثم إن المقاييس التي تقيس بها النص الأدبي – كما يرى نعيمة في " الغربال "- متغيرة و متقلبة بحسب قوة التمييز التي تخضع لاعتبارات شخصية أو فطرية في أغلبها،3 فإذا آمنا بذلك كله دفعنا إلى أن نتيقن أن الرفق في الأحكام النقدية واجب، إذا أردنا أن نكون منصفين في تعاملنا مع الأديب وبالتالي مع نصه. ثم إن نعيمة في موضع من كتابه المذكور يؤكد أن " مهنة الغربلة، لكنها ليست غربلة الناس ، بل غربلة ما يدونه قسم من الناس من أفكار وشعور وميول...هي غربلة الآثار الأدبية لا غربلة أصحابها. " 3
لكن الذي يحدث من الحين والآخر، أن الأديب يضحى متهما في أخلاقه وعقيدته بمجرد أن يخط عبارة هنا أو نصا هناك فيه ما يوحي إلى الخروج عنهما؛ فتنطلق في إثره الاتهامات التي تطالب أحيانا بمصادرة إنتاجه، وأحيانا بمحاكمته، وأحيانا أخرى بتكفيره أو تفسيقه، وما إلى ذلك من الأحكام التي رأينا على امتداد القرن الماضي نماذج كثيرة لها.
ويمكننا أن تذكير القارئ هنا بما حدث لنصر حامد أبي زيد وتطليقه من زوجته بحجة الارتداد عن الدين ، وحيدر حيدر بسبب قصته " وليمة لأعشاب البحر" التي " كنوع من المخدرات، أو الممنوعات الأخرى، وزِّعتْ الطبعة الأولى لهذه الرواية، مغفلة من تاريخ النشر واسم الناشر. واختفى عن غلافيها، الخارجي والداخلي، ذكر أي اسم، أو أية إشارة موحية.. سوى اسم المؤلف." 4 فتعالت الأصوات مطالبة بمصادرة الكتاب ومنعه من النشر، وقبله نجيب محفوظ بسبب قصته " أولاد حارتنا" واتهامهما بالإساءة إلى الإسلام. والمعارك الكلامية التي نشبت بين فريقين يدعي الأول أن كل ما يشتم منه رائحة الإساءة إلى الإسلام و رموزه و ثوابته لا يجوز نشره و الترويج له، ويدعي الثاني أن الأديب يملك كامل الحرية في التعبير عما يريد دون التقيد بالدين أو الأعراف أو غيرها.
إن الأدب بوصفه فنا يتخذ من اللغة أداته التعبيرية، لا يمكن أن يكون فقها أو تنظيرا للدين أو لغيره من نواحي الفكر الأخرى، صحيح أنها تنعكس في صفحاته بشكل أو بآخر، ولكننا لا نطالب الأديب أن يكون فقيها أو رجل سياسة أو عالم اجتماع، بل هو أديب يعبر عن أحاسيسه وخلجات ذاته تجاه الحياة من حوله بتنوعها الديني والسياسي والاجتماعي. وإذا كان لا بد أن يحاسب فليحاسب فنيا وجماليا من حيث توظيف اللغة التي عبر بها عن الفكرة، وما تحمله من ثقل تعبيري يتجاوز في الغالب المعاني الظاهرة الصريحة .
فاللغة الانزياحية والرموز والإيحاء عناصر أساسية في التعبير الأدبي، وإذا لم نحسن التعامل معها فإننا نظلم الأديب أكثر من أن ننصفه.وإذا كان مطلوبا منا أن نلتمس للآخر سبعين عذرا في التعامل العام، أفلا نلتمس للأديب مثلها عندما يوظف من التعابير ما يفهم منه أنه مس بالدين أو المعتقد؟ ثم إن الأدب العربي ليس أدبا إسلاميا بالضرورة؛ فروافده عديدة ومتنوعة دينا وثقافة واتجاها، وفيه المسلم و النصراني والعروبي والشعوبي والملتزم وغير الملتزم، وفي عصرنا هناك القومي والشيوعي والعلماني، ولا بد أن تتسع صدورنا لها جميعا. خاصة وأننا ننتمي إلى ثقافة يفرض علينا احترام الغير وخصوصياته والتعايش معه، شرط أن يكون ذلك بشكل متبادل فلا يمس حق أحد بسبب اتجاهه.
ويتفق جميعنا على أن المسائل الدينية والعقدية حساسة جدا، وأن الطعن في الأديان لا تجلب النفع لأي أديب مهما يكن حظه من الإبداع ، أو ناقد مهما تكن حنكته و درجته العلمية. ومن واجب الإنسان أن يلزم حدوده، في الحديث عن الدين، وفي الحديث عمن تحتوي كتاباتهم على أمور تتعلق بالدين أو توحي إليه. صحيح أن الغيرة على الدين واجبة، والدفاع عنه مشروع ومطلوب خاصة في ظل الهجمات المتكررة والصريحة التي تشن عليه منذ تأسيسه، ولكن مهاجمة أي كاتب لاجتهاد فكري، أو روائي لحوار بين شخصيات روايته فيه تلفظ يمس الدين، أو شاعر تجرأ في الخروج عن المألوف فأورد من العبارات ما لا يُتفق معه فيها، هي من الأمور التي تُنتقد ولكن بالطرق العلمية والأخلاقية لا بالطرق الانفعالية التي تصب الزيت على النار بدلا من تصحيح الأوضاع وتصويبها.
وإذا كان كل محظور مرغوب فيه، فتصوروا كيف أن أدباء أو مثقفين استفادوا من هذا النقد الانفعالي فرُوج لكتاباتهم ونالوا بها ما لم يحلموا به عند تأليف ما ألفوا. فلو رُد عليهم بالمنهج العلمي، وبالحجة المقنعة دون تهويل أو صخب لكان الناس تعاملوا معها التعامل الهادئ الصحيح. ومن المؤسف أن نرى أحيانا من ينتقد عالما أو أديبا أو مفكرا وهو لم يقرأ له حرفا، إنما سمع من صديق أو قريب أو قرأ في صحيفة أن هذا الكاتب قد أساء إلى الدين مثلا فيرفع عقيرته بالنقد والاتهام، بل إنه قد يتجاوز ذلك إلى القذف والشتم والتكفير.
و نعتقد أن إنتاج الأديب هو أشبه ببضاعة يعرضها التاجر في السوق، فيها الجميل والقبيح والنضير والذابل والثمين والرخيص، فلا يصح والحال هذه أن نصف التاجر بأوقح الأوصاف لأنه عرض هذا بجانب ذاك، بل الحكمة تقتضي أن نأخذ منه الجميل والنضير والثمين ونترك ما سواها.
قد يفلت منا اتهام من حين لآخر في ظرف ما دون أن يكون مؤسسا منظما، لكن أن يتحول الاتهام إلى ثقافة فتلك المشكلة لقد كانت علاقة الأديب بالناقد منذ القدم مشوبة بالحذر والنفور، كان الأول دائما يشعر بالظلم من ناقديه، فهم لا يفهمونه حق الفهم تارة، ويحملون ما يقوله فوق حده تارة أخرى، وقليلا ما يطمئن لتأويلاتهم واستنتاجاتهم. أما الآن فما عاد النقاد المتخصصون هم أصحاب الشأن في الحكم على الأعمال الأدبية وحدهم، بل أصبحت فئات أخرى تزاحمهم وتقيم الأدب، وتحكم على الأديب دونما زاد فني أو خبرة نقدية، بل دونما أخلاق تضمن قدرا من الاحترام بين الطرفين.
وإذا كان رسولنا الكريم قد قال: ( إنكم لا تسعون الناس بأموالكم وليسعهم منكم بسط الوجه وحسن الخلق )5، فإن مراجعة هذا النهج في النظر إلى النص الأدبي وصاحبه أكثر من واجبة. فكل عمل يخلو من أخلاق قد تنقلب نتائجه على صاحبه. وقد رأينا كيف أن ضغط الاتهامات التي وجهت إلى بعض الأدباء والمبدعين انقلبت تمردا على القيم والأعراف انتقاما لأنفسهم ممن وضعوهم في قفص الاتهام.
------------------
1 انظر الرابط::http://www.hdrmut.net/vb/t209878.html
2 التفسير النفسي للأدب، عز الدين إسماعيل، 13-16، دار العودة، ودار الثقافة بيروت.
3 الغربال ، ميخائيل نعيمة، 16 وما بعدها ، مؤسسة نوفل- بيروت . ط15 ،1991
4 م . السابق ، 13
5 محنة الذات بين السلطة و القبيلة .محمد رضوان . 77 . منشورات إتحاد الكتاب العرب – دمشق . 2002
6 رواه سفيان الثوري عن عبد الله بن سعيد عن أبيه عن أبي هريرة .

الصورة والاغتراب في شعر محمد الماغوط

.  الدكتور رمضان حينوني 
أستاذ النقد الحديث بالمركز الجامعي لتامنغست . الجزائر

تمهيد:
ظهر الماغوط في زمن كانت القصيدة العربية تبحث فيه لنفسها عن منفذ للنجاة من التقريرية والخطابية والصورة المباشرة المحسوسة، فكان ظهور قصيدة التفعيلة وقصيدة النثر يبدو فتحا جديدا ومهما لهؤلاء الباحثين عن التغيير، والمتمردين على الأشكال القديمة في جميع صورها، واستبشروا بها خيرا بوصفها الميدان الذي يتحررون فيه من قيود الشعر الشكلية والمعنوية، والانطلاق نحو قارئ لايسألهم عما يرودون قوله بل يغوصون في عمق النص فيأخذون منه بقدر إدراكهم له، وقدرتهم على مساءلته في بنيته وتشكيله، على اعتبار أن الإبداع عملية _ وإن كانت واعية في جانب من جوانبها_ غير واعية في الجانب الآخر، وبالتالي فإن النص لا يكشف دائما عن شيء مقصود، بل يمتلك القابلية للتعبير عن الغائب المختفي، والمختبئ خلف الكلمات والإشارات.
وفي الوقت الذي احتمى فيه الماغوط بجماعة شعر التي عرفته إلى جمهور الشعر لأول مرة، ومنحته الفرصة ليكون تحت الضوء في بيروت، فقد كان متوقعا منه أن يمثل هذه المدرسة، أو يكون شعره أحد نماذجها، على المستوى الفلسفي الذي نظر له يوسف الخال، لكن الماغوط وبقدر ما كان في أمس الحاجة إلى غطاء شعري ونقدي لتجربته، لم يكن– كما بدا لاحقا - مستعدا ولا قادرا على أن يضحي بأهم ميزة له عن كثير من معاصريه وهي بداوته أوفطرته اللتان جعلتا منه شاعرا أقرب إلى التوحش منه إلى لطافة العصر المزيفة، ومظاهره الخادعة.
وعلى الرغم من أنه لم يخرج في شعره تماما عن نظام القصيدة الجديدة المتجهة نحو الصور الفلسفية العميقة، فإنه جعلها تتلون بأصباغ بساطته وعقده الخاصة معا، فجاءت نازعة إلى البساطة والرؤية البصرية تارة، وقريبة من الرؤيا تارة أخرى. ولطالما كان يعتقد أنه لا يملك القدرة على مجاراة أدونيس في طريقته الشعرية التي عدت مثال الرؤيا الشعرية الجديدة التي تلغي الصورة المحسوسة المباشرة، وتسبح في فضاء الخيالي الرامز، دون أن يعني ذلك إعجاب الماغوط بها فقد كان شعراء (شعر)، حسب تعبيره "يكتبون في المطلق، وأنا حاولت أن أسحبهم إلى الأرض بكل ما فيها من أرصفة وتشرد وحطام، وأرغمهم على أن يعودوا من الفضاء إلى الأرض"، الأمر الذي دفعه إلى رفض غرق الشعر في جدلية الوجود والعدم، و" ألغاز تفصلها مائة سنة ضوئية عما يدور على الأرض".
إن بُعد الماغوط عن الخيال الرامز ربما كان له ما يبرره؛ فبصرف النظر عن ثقافته المدرسية المحدودة، وعن عدم إتقانه لغة أجنبية تسمح له بالاطلاع على التراث الأوروبي الغني بالأساطير والرموز والتنظير المبحر في عالم الإبداع الشعري، فإن التصاقه المفرط بمعاناته الذاتية ومعاناة الوسط الذي يعيش فيه جغرافيا وتاريخيا وثقافيا جعله يخالف كثيرا من معاصريه في الميل إلى الرموز والإيحاءات الموغلة في الغموض، أو ربما يريد أن يكون قاسيا في شعره كما في طبعه عندما يصدم القارئ بواقعه، ويفاجئه بحقائق لا يبذل الجهد الكبير في إدراكها، لأنها في متناول التأمل اليسير.
لهذا نجده في أحد حواراته يقول:" لم أجد نفسي في خيمة التنظيرات، أردت أن أبقى وفيا لتجربتي كما هي، وفيا لأسلوبي الذي كتبت به قصائدي الأولى، إذ لم أكن مهتما بالشكل بل بالإحساس القادم من تجربة ما ومعاناة ما، فليس في شعري رموز أو أسطورة، ولا أعتمد على تراث بعينه، فقط أعتمد على الصدق والبساطة."

أ-التشبيه وبساطة الصورة:
ويرتكز الماغوط في بناء صورته على التشبيه بالدرجة الأولى، فلا يكاد يخلو نص منه، بل إن كثافته في بعض النصوص لتلفت الانتباه، وتغطي على الطرق التصويرية الأخرى، ولقد برر الشاعر ذلك ببعده عن التفلسف والفكر، وارتباطه بعالم الناس ويومياتهم، في معاناتهم وأمراضهم وآلامهم، وبكونه لا يملك " إلا القلب والعينين" في مقابل الفكر والخيال لدى غيره من شعراء التفلسف والغموض، لذلك نجد بساطة الصورة تكاد تلاحظ في جميع أعمال الماغوط الشعرية، وحيزها أكبر بكثير من حيز المجازات والرموز، وكأن البساطة عنده وجه من أوجه المواجهة مع الآخر؛ فالكشف الذي تتميز به الصورة يمثل استعداد الشاعر للتحدي والمواجهة؛ إذ ليس له شيء يخفيه عن خصومه، وهو مع ذلك يملك من القوة ما يعطيه الثقة بالنفس.
وتعد (كاف) التشبيه أداته المفضلة في بناء صوره الساخرة والجادة على حد سواء، فهي أداة شائعة تعزى إليها قلة الخيال لأنها تجمع بين الصور المحسوسة غالبا؛ فقد اعتمدها الشاعر القديم ومن اقتدى به اعتمادا واضحا جعلت نقادا كثيرين يقللون من قيمة الشعر الكلاسيكي لكونه قليل الخيال الذي هو عماد بناء الصورة الجيدة.
ففي قصيدنه ( إلى بدر شاكر السياب) يقول الماغوط:
لا تضع سراجا على قبرك
سأهتدي إليه
كما يهتدي السكير إلى زجاجته
والرضيع إلى ثديه.
إن وضوح الصورة لكونها تجمع طرفين محسوسين، لا يعني خلوها من اللفتة الفنية؛ ذلك أن ما يجمع بين طرفي التشبيه ليس معرفة الهدف وهو الوصول إلى الآخر فحسب بل أيضا تلك الحميمية التي أشار إليها بالعلاقة بين السكير وزجاجته، وبين الرضيع وثدي أمه، وكأن الحميمية هي البؤرة التي تدور حولها الصورة؛ " فالصورة تصبح هي معرفة الواقع , فكأنها بهذا المفهوم معادلة للمعرفة "، كما تصبح الأشياء البسيطة المحسوسة " كالنار والبرتقال والحلزون والزنبور والماعزة... من مصادر هذا الاتجاه الشعري الذي كان يبحث عن الواقع اليومي في بساطته وصدقه، باعتبار أن البساطة تفضي إلى الصدق، وأن الصدق يفضي إلى الجمال والعمق".
والأمر نفسه نجده في (الفائض البشري)حيث يقول:
رئتاي جاحظتان خارج صدري
كعيني اليتيم
وصوتي ضال كالرعد
لا يعرف أجيالا مقبلة ينشدها
ولا فما قديما يعود إليه
أيها البناؤون ادعموني بحجر
إني أتصدع
كالجدران التي خالطها الغش
أنهار
كالقمم الثلجية تحت شمس الربيع
آه لو يتم استبدال الأوطان
كالراقصات في الملهى.
فعلى الرغم من اعتماد الماغوط على كاف التشبيه بالدرجة الأولى، إلا أنه يغلف الصورة بإطار معنوي قوي، هو حالة الضياع الرهيبة التي تنتابه تحت ظروف معينة؛ فحسية الصورة مراد منها الكشف عن فداحة الخطب بالشكل الذي يعطيه الظهور والبروز، وكأن التلميح إليه غير كاف وغير شاف للغليل.
وقلما يستغني الماغوط عن أداته المفضلة (الكاف)، مع أن حذفها أبلغ في الكلام كما لاحظ البلاغيون، ومن القصائد التي اعتمد فيها حذف الكاف(بكاء السنونو) التي يقول فيها:
الذئب والأفعى لن يكونا أبدا
حمامتين تحت المطر.
...
يا شعبي احتضني
أنت الأب الحكيم
وأنا الابن الضال
أنت السيل الجارف
وأنا الكوخ المتداعي
ويبدو التشبيه أكثر قوة في هذا المقطع، وكان يمكن أن يعتمد هذه الطريقة في كثير من قصائده، لكن اغلب الظن أن الكاف عنده ليست مجرد أداة للتشبيه فقط، بل له فيها مئارب أخرى لعل منها الإيقاع الصوتي كما سنوضحه في حينه.
غير أن أحكاما مثل هذه تبقى نسبية؛ فجمال الصورة لا يلتزم نمطا معينا من البناء، ولا يشترط أدوات دون أخرى، بقدر ما يتوقف على قدرة الشاعر على صياغة التعبير والتفنن فيه، ونحن – على سبيل المثال- لا نستطيع أن ننكر براعة كثير من الشعراء القدماء في التصوير كالمتنبي وأبي تمام وغيرهما، وفي الوقت ذاته نرى أن المجاز والاستعارة والكناية تصنع صورا أكثر قوة من صور التشبيه نتيجة لخاصيتي الحذف والإخفاء اللتين تضفيان على التعبير قوة الإيحاء وتدفعان إلى استحضار أجزاء الصورة وتركيبها ومعرفة مراميها.
ب - المجاز والرؤيا التصويرية:
تعتمد الرؤيا المجازية في الشعر على الصورة " المجازية التي تنتقل فيها الدلالة من الإبصار الحسي إلى النظر العقلي" ، ويستند الماغوط فيها أساسا على المجاز والاستعارة محاولا بها التعبير عن حالاته الانفعالية التي غالبا ما تنحو في اتجاه معاكسة الأشياء والانتقام من الأوضاع التي يفتقدها الشاعر أو يراها في غير محلها؛
غير أن الصورة المجازية عند الماغوط لا تكاد تستقل بنفسها، ولاهي قادرة على فرض وجودها في مساحة القصيدة، بل تكبلها الصورة الحسية، ولا تسمح لها إلا بالقليل من الظهور، أو لنقل بظهور مؤقت سرعان ما تعود فيه سطوة الحس إلى الريادة، وكأنما هي عادة مهما حاول المرء الابتعاد عنها عاد إليها، أو لم يستطع إلا العودة إليها.
فعندما نقرأ في (أوراق الخريف) قوله:
طالما عشرون ألف ميل بين الرأس والوسادة
بين الحلمة والحلمة
لن أعود إلى المسرح بأصابع محطمة
والحبر ينزف من غرتي على الجدران والقاعات.
سأعيش هكذا
زهرة يرويها الدم وتقصفها الريح
أروي ظمئي العميق
إلى الرمل والجنون
للتشفي من بلاد حزينة
تتأرجح أسنانها كالحبال على مداخل التاريخ.
نقف على هذه الصورة المجازية المعبرة عن الحنق والرفض لهذا الواقع الذي يتجرع الشاعر مرارته، فالبعد بين الوسادة والرأس، وكون الأصابع محطمة، وتشبيه نفسه بالزهرة التي يرويها الدم، والرثاء لأسنان البلاد التي تتأرجح، كلها صور مجازية ذهنية ذات أبعاد دلالية واسعة، تدفعنا " إلى التحديق في الواقع الذي اعادت إنتاجه في علاقاتها الدالة، كي ترينا فيه ما لم نكن نراه، وتصدمنا بما ينتهي بنا إلى التمرد عليه والوعي النقضي به" ؛ غير أن التشبيه ما يزال يحيط بها، ويشدها إلى منطقه، دون أن يعني ذلك التقليل من التعبير الشعري في هذا المقطع وفي سواه، إنما يعزز ذلك كله ارتباط قصيدة الماغوط بأسلوب التشبيه الذي يجعل الصورة في منحاها العام حسية مشهدية أكثر منها تصورية ذهنية.
وإذا نظرنا إلى هذه الصورة الشعرية من زاوية أخرى، وجدناها عند الماغوط -كما عند قسم من شعراء القصيدة الجديدة- متجهة نحو مظهرين أساسيين: الأول جزئي والثاني كلي مشهدي؛ فيبدو الثاني كأنه مؤلف من مجموعة صور جزئية، ليس بالضرورة أن يكون بينها نوع من العلاقة العضوية.
ـ المظهر الأول: يشكله مجموعة كبيرة من الكلمات ذات البعد الدلالي الواسع، التي كونت المعجم الاغترابي للشاعر، ورأينا كثافته في مبحث سابق. فالوحل في قصيدة الماغوط ليس مجرد منظر طبيعي ينقل حقيقة البؤس في المدينة أو الريف، بل هو صورة داخلية تنقل قبح العالم كما تشعر به النفس المغتربة فيرتبط بـ (الشباب البارد كالوحل، والاغنية الطويلة في تجويف من الوحل ، والشاعر المنكفئ على نفسه كخيط من الوحل)، فيتحول الوحل من عنصر دال مفرد إلى عالم من الدلالات المختلفة، تحيل قارئها إلى صورة يساهم الجزء المخفي منها في تشكلها, فالحاضر من الصورة لا يعدو كونه جزء صغيرا، أما الغائب فتكفي إيماءة الحاضر ليلقي بظلاله على الصورة الكلية.
وقل مثل ذلك في الحزن والرصيف والسحابة والسل وغيرها من المفردات التي تختزل في دلالاتها صورا شتى لمعاناة الشاعر، وهو ما نجده عادة في السطر أو السطرين، أو العبارات المركزة، كوصفه نفسه بالحاجب القديم على باب الحزن.
ـ المظهر الثاني: تشكله الصورة المشهد، عبر مقاطع تطول أحيانا وتقصر أخرى، وتأتي تارة على شكل حكاية أو حلم، وتارة ثانية في ما يشبه الهذيان اليائس، وتارة أخرى في محاولة فلسفية لفهم الذات أو العالم المحيط به، رغم ترديده لقصر باعه في مثل هذا المجال.
فالصورة الأولى يمكن أن يمثلها مقطع مثل:
حلمت ذات ليلة بالربيع
وعندما استيقظت
كانت الزهور تغطي وسادتي
وحلمت مرة بالبحر
وفي الصباح
كان فراشي مليئا بالأصداف وزعانف السمك
ولكن عندما حلمت بالحرية
كانت الحراب تطوق عنقي
كهالة المصباح.
تعتمد هندسة هذه الصورة على تقنية التدرج الموصل إلى المفاجأة، فالشاعر يصل إلى الصورة المعنية المعبرة عن الموقف المقصود عبر تمهيدات مخادعة، فلا بأس أن تتحقق أمانيه في حضور الربيع والأصداف إلى فراشه، طالما أنهما لا يكلفان الآخر شيئا، ولكن سلسلة الأحلام تنقطع فجأة وتتحول إلى كابوس إذا تجاوز الحلم حدا يكلف هذا الآخر التنازل عن السطوة والمركز والمصالح الضيقة، وكأن حرية الفرد يجب أن تصدم بحرية الآخرين الآخرين، أو كأن الحرية لا تتسع للجميع.
والصورة الثانية يمثلها قوله:
بياقات صلبة تصل حتى الدقن
بشفاه دبقة ومعاصم تخنقها الازرار
نقف لنأكل
نقف لنشتاق
نهوي على الذباب بالقصائد والمناديل
لنلمح شجرة أو طائرا يمضي.
فالكلام هنا يكاد يميزه التشتت، فهو أقرب إلى التمتمة غير الواعية منه إلى الكلام المتزن المفهوم.
أما الصورة الثالثة فيمثلها هذا المقطع من(من العتبة إلى السماء)
لا بد ان تكون
كل الآهات والصلوات
كل التنهدات والاستغاثات
المنطلقة من ملايين الافواه والصدور
وعبر آلاف السنين والقرون
مجتمعة في مكان ما من السماء.. كالنجوم
ولربما كانت كلماتي الآن
قرب المسيح
فلننتظر بكاء السماء
يا حبيبتي.
ومهما يكن من أمر فإن الصورة في قصيدة الماغوط تحتكم –أول ما تحتكم-إلى البساطة والعفوية، ورفض الانجرار نحو الصورة الفلسفية الغامضة؛ فهي وسيلته إلى إخراج غضبه وثورته وتمرده في وضوح وصراحة، معتمدا في ذلك على مبدأ الحرية التي تجعل الشاعر بعيدا عن قيود الشعر إيقاعا وتصويرا على حد سواء، كما أنه لا يريد إجهاد القارئ بالغموض والفكر في زمن هو أحوج ما يكون فيه إلى الالتفات إلى الواقع الملموس بقضاياه وهمومه ومآسيه.
2-التصوير الحكائي:
يعمد الماغوط إلى التصوير الحكائي في أكثر من موضع، بل يبدو أن الحكاية هي إحدى وسائله المفضلة في تصوير المعاناة من خلال ذاته المعذبة أولا، ثم من خلال الواقع السيء المحيط به؛ فهو في أغلب كتاباته يقترب من الحكواتي في الأسواق الشعبية، يريد أن يسمع الجميع ما لديه من أخبار الفجائع والمهازل، في صور شتى تعكس فيما يظهر تمرده وثورته على الواقع السلبي الذي لا يكف عن التكرار والاستمرارية.
ويمكن ربط لجوئه إلى هذا النمط من التعبير باعتماده الملحوظ على الخطاب الذاتي، حتى ليصعب أحيانا التفريق بين ما هو قصة أو حكاية وبين ما هو معالجة مباشرة لقضية ما؛ فكل قضية هي قضيته الخاصة، وكل مأساة له منها نصيب، فكأنه نموذج بشري لمشاكل الناس في هذا الشرق امعروف بشكواه المستمرة من انعدام حرية التعبير، وكأن الحكاية والحوار في القصيدة متنفس الشاعر، وطريقته ليقول في عالم النص ما لا يستطيع أن يقوله في عالم الحقيقة، أو ما ليس للآخرين وقت أو رغبة في سماعه. ولعل ضيق الفارق بين شعره ومسرحياته وروايته الوحيدة (الأرجوحة) ومقالاته الصحفية، من حيث الموضوعات والأسلوب وطرق الخطاب، يؤكد أن الطابع الحكائي عنده نوع من مواجهة جدار الصمت، أو مواجهة مسار الرأي الأوحد الذي كان يؤرقه، كما أن الحكاية في طابعها الشعبي مثلما هي عند الماغوط تبدو طريقا سهلا في اتجاه نقل الأفكار وشحنات العواطف إلى الناس البسطاء خاصة، بعيدا عن عالم الرموز والأساطير التي يرتع في ساحتها ذوو الفلسفات والأفكار السابحة في فضاء بعيد عن عالم الفقراء والكادحين.
غير أن الحكاية في شعره ليست متكاملة العناصر، أو متماسكة الأطراف، بل تتبدى كالهذيان طورا، وكالمزحة أو النكتة طورا آخر، ويبدو أن كرهه للنظام والقوانين قد تجسد في حكاياته الشعرية أيضا؛ ذلك أنه يعرض الحدث متخيلا من بنات أفكاره، وبشكل غريب في علاقة الأجزاء ببعضها، وفي النتائج أو الخواتيم التي يعتمدها، والتي تكون في الغالب غير متوقعة، وأحيانا غير منطقية أيضا، غير أن الحكاية عنده، ومهما يكن الشكل الذي تأخذه، لا تخلو من إشارة أو دلالة واضحة، نابعة عن وعي الشاعر بما يقول.
ولعل قصيدته (أمير من المطر وحاشية من الغبار) مثال من ذلك؛ فالشاعر يقسم النص قسمين، الأول يعنونه بالشبح الصغير والثاني بالشبح الكبير، وهما بردى ودمشق، ويشكل الماغوط نصه على شكل حوار بين أمير وحاشيته حول الشبحين الذين رمي بهما الدهر في مملكة الأمير المفترضة، فيكشف عمق البعد المعنوي بين الشاعر والوطن. إن لفظ الشبح في ذاته دليل غموض وضبابية هوية، ويستوجب الكشف والإبانة، فالأمير ينكر الشبحين ولا يتردد في وصفهما بالشكل الذي يعمق غربته اتجاههما، ويقاوم محاولة الحاشية للتعريف بهما أو تذكيره بهما.
في (الشبح الصغير) يبدأ الماغوط بالوصف كعادته، ذلك الوصف الجارح الصادم الذي ينبئ دائما بوجود مشكلة بين الشاعر والأشياء، فيخاطب الحاشية متحدثا عن الشبح المقترب سائلا عمن يكون، ومركزا على وصفين مشوهين لصورة النهر الرائعة التي تغنى بها الشعراء عبر الزمن، وهما( النساج الأعمى/ ضرير يتعرف على ملامح أحفاده).
إن اختيار هذين الوصفين إشارة إلى شحنة الغيظ من تبدل الأوضاع إلى الأسوأ، فبردى الذي كان نهرا جاريا صافيا باردا أضحى عند الشاعر جافا خربا تائها على غير هدى، وشبحا مجهولا؛ فعندما تقول الحاشية للأمير بأن الشبح بردى، وتتعجب من إنكاره يجيب:
- بردى؟
لا أذكر أخا أو صديقا بهذا الاسم
أهو صندوق أم جدار؟
- مولاي
إنه بردى..
النهر الذي ترافقه الزهور العطشى
من نبعه إلى مصبه.
- ليراجعني غدا
في مكتبي القائم بين الأرصفة
علني أجد له ميتما بحريا
أو سحابة شمطاء تتبناه
ويزيد في درجة القسوة وحدة الخطاب حين تصوب الحاشية اعتقاده، ويعيد طلب مراجعته، ولكن هذه المرة مشفوعا بطلب الاسترحام ملصوقا على ضفتيه.
وفي الشبح الكبير يتبع الطريقة نفسها مع جرعة زائدة من الحنق وحب الانتقام، خاصة أن الأمر يتعلق بدمشق، فهي أكبر وأهم من بردى، ولا بد أن يكون تعامله معها أكثر عنفا وتجريحا، فهي تتراءى له عجوزا بملاءتها المرقعة وسالفيها الأشيبين، ويحوم البعوض حول رأسها، وتعلك حجابها المبلل بالدمع ، وعندما ينبه إلى أنها دمشق يحاول تجاهلها في البداية، ويقول:
- دمشق؟ لا أعرف أما أو شقيقة بهذا الاسم
أهي خزانة أم مطرقة أم مرآة؟؟
- إنها مدينتك يا مولاي
- مدينتي ؟ لا مدينة لي سوى جيوبي...
لكنه يعود ويتذكرها، لا ليبكي فراقها أو يرثي لحالها بل ليمارس طقوس الانتقام منها، ويستفيض الشاعر في ذكر الأسباب التي تجعله يتجاهلها، فيعود بالذاكرة إلى الماضي ليسترجع ما سببته له دمشق من ذكريات الألم والمعاناة مفصلة تفصيلا يراد منه جلب التعاطف والشعور بعظم ما يعانيه الشرقي من الظلم والحيف في وطنه وبين بني قومه، ويرسم الماغوط لوحته التعبيرية في هذا المجال بكثير من العاطفة، خاصة حين يتعلق الأمر بالتشرد، كما يوضحه قوله:
عندما انتزعوني من سرسري الغافي
وأنا أغط كفراشة على زهرة
ورحت أنبض آلاف السنين
كحشرة مقلوبة على ظهرها
تشبثت بجدرانها
بحلقات أبوابها
بلحى شيوخها وأثداء نسائها
وأنا أنظر إليها باكيا متوسلا
كما كان العبد المطوق بالحراب
ينظر إلى أمه الطبيعة
قلت لها :عطشان يا دمشق
قالت: اشرب دموعك
قلت لها: جوعان يا دمشق
قالت: كل حذائي.
فماذا أبقت له غير أن يحكم عليها بالإعدام في ساحة ذاكرته، على أن لا يحضر مراسم إعدامها، لأن زاوية من قلبه ما تزال تحتلها هذه المدينة الوطن، ولا يستطيع أن يكون شاهدا على إعدام نفسه من خلالها، فحين يأمر الأمير بضربها بالسياط، وطردها من الأبواب والكتب والحانات والأعراس والمآتم وبغلق أبواب العالم في وجهها، يقول بما يوحي بالمسؤولية:
ولكن..
اسملوا عيني قبل أن تفعلواذلك
إنني أحبها يا رجال
ولن أخونها
ولو ذرفت الكسور الدورية للدموع.
وإذا كانت هذه الحكاية الشعرية واضحة المعالم من حيث دلالات أحداثها، فإن نماذج أخرى في ديوان الماغوط تبدو أشبه بحلم مبهم يحتاج إلى تفسير، ولعل(ذكرى حادث أليم لم يقع) مثال من ذلك، يقول فيها:
فيما كنت أتسكع تحت الأشجار المزهرة
مع مذكراتي وغليوني
كبطل عجوز يتريض في منفاه
لمحتهم يهرولون في العواصف الثلجية
نصفهم معاطف
ونصفهم عباءات
يرشقون الوحل بنعالهم كالرصاص
وكل منهم يشبك أصابعه فوق رأسه
ويصرخ:
النجدة .. النجدة
أنا دفتر
أنا ثائر
أنا كاتب عدل
أنا هاتف
أنا ساعي بريد
وأنا أجثم على جدران المدينة كسلم الحريق
وسيفي مغروس حتى قبضته
في نخاع الباستيل
فالنص حكاية قصيرة أغرب ما فيها النهاية؛ فالحدثان الجزئيان الأولان يوحيان إلى جدية الأمر وخطورته، الأول تسكعه أو تريضه في مكان جميل، والثاني رؤيته لنماذج من الناس يصرخون ويستنجدون، أما بعد ذلك، فتوجد صورة ضمن إطارها بطل وهمي يجثم على جدران المدينة وسيفه مغروس في نخاع الباستيل.
3-التصوير المشوه:
يعمد الماغوط إلى التصوير المشوه ليعبر عن رفضه وتمرده واغترابه، فالصورة الواقعية المحسوسة لن تخرج عنده إلى الوجود كما تريدها طبيعتها، بل لا بد أن تتسخ بدخان حالك ينبعث من نفسه التي تعاني في محيطها الصعب، الأمر الذي يعني أن العالم المرئي الذي يستقبله الشاعر، لا بد أن يتأثر بالعالم الداخلي المختبئ خلف الكلمات التي تفتضحه.
إن الأمر لا يتعلق بالرغبة في تشويه الشيء في حقيقته تشويها مرضيا، بل هو مسعى إلى هدم الصورة الواقعية لبناء صورة جمالية حتى وإن كانت مادتها القبح بدل الجمال، أو هو إنتاج الصورة كما صيرتها الأنفس المريضة وفرضتها على ذوق وشعور الأنفس الصافية، بفعل عامل وسيط وقوي هو التسلط.
يعمد الماغوط إذن إلى الصور الجميلة التي اتفق الناس على جمالها، وإن في إطارها العام، فيشوهها ويقبحها، لكنها صورة لحسن الحظ تركن إلى نوع آخر من الجمال، هو الجمال الفني، أي أنها تنتقل في تعابيره الشعرية مشهد عام يشترك في وصفه الجميع إلى مشهد خاص ينفرد به الشاعر دون غيره، لا لشيء إلا لكونه خاضعا لرؤاه الخاصة المتشكلة في إطار تجربته الخالصة.
هذا الذي نراه في قصيدته(أربع عيون مغمضة) حيث يقول:
هل اشتهيت امرأة زرقاء
زرقاء كالريح؟
هل تفرست في أصابعها النحيلة
وشعرها المزين
بالأسلاك والمطر المهجور؟
هل نفرست في لحمها الخائن
وصدرها المحشو بالأقمشة والخطافات؟
إنه لحم عادي ورقيع
كالذي نضربه بالسوك
ونأكله أيام الرعب والمجاعات.
إن المرأة التي احتكرت الجمال الحي في المخيلة البشرية تتحول في هذه الصورة الماغوطية إلى شيء مقزز، ويتفنن الشاعر في تقبيحها، فيعمد إلى تغيير اللون إلى الأزرق، وهو لون غريب في قاموس الجمال الأنثوي، وتفقد الأصابع امتلاءها فتغدو نحيلة جافة، أما الشعر والصدر والجسد وهي المقومات الأساسية لذلك الجمال فتتغير مظاهرها بما يبعد الجمال عنها، فيجعل المرأة في النهاية أقرب إلى الجثة منه إلى الكائن الذي يضج بالحيوية والحياة.
وكذلك يفعل في (خيانة) حين يصف النهدين، وهما رمز الخصب ومنح الحياة، ومحط إعجاب المحبين والمغرمين بأنهما مثانتان فارغتان:
نهداها الأزرقان
يتأرجحان تحت المطر كمثانتين فارغتين.
فيعمد إلى اللون الأزرق مرة أخرى وصفا للنهدين ليسلبهما الحياة والتألق، ثم يشبههما بمثانتين، حتى وإن كتنتا فارغتين فإن ربطهما بهذا العضو يدعو للتنفير منهما بدل الرغبة فيهما، ويتكرر الأمر في مواقع كثيرة أخرى من شعره، حين يجعل (النهود المهجورة تقذف من الحافلات)، أو (تقرض مع الخضراوات)، و(الأثداء يفتتها الزحام)، وغيرها من الصور الصدامية القاسية التي تعكس مبلغ ما يعانيه الماغوط في علاقته مع الواقع، إلى درجة السعي إلى معاكسة المألوف، ورفض المسلمات القائمة في عالم منافق تغيرت مبادئه، والتبست حقائقة.
ويمتد التشويه على هذا النمط ليشمل كل ما هو في عرف الناس جميلا أو مهما أو نفيسا، مثل الوطن والحب بل حتى الذات التي يسعى كل فرد إلى إخفاء عيوبها، والتظاهر بما هو جميل ومحمود، نجد الماغوط يوغل في تشويهها وتقبيحها، وقد رأينا كيف يصل به الأمر إلى تخيل نفسه قردا في غابة، فيقول في (خريف الأقنعة) :
محال .. محال
أن أتخيل نفسي
إلا... قردا في غابة
يقطف الثمار الفجة
ويلقي بها على رؤوس المارة
وهو يقفز ضاحكا مصفقا
من غصن إلى غصن.
إن وصول الشاعر بالتقبيح والتشويه إلى ذاته مؤشر على ما وصلت إليه نظرته إلى العالم الذي يحياه، وإلى الأشياء التي تحيط به أو يتعايش معها، إذ هو منفصل عنها في داخله، وغريب عنها بالأشكال التي تُتداول بها، وكأنه يقول للقارئ: لك عالمك ولي عالمي.
-خاتمة:
نستطيع أن نتلمس– مما تقدم- بعض الخصائص المميزة للصورة الاغترابية في شعر الماغوط؛ فبقدر ما تبدو بسيطة التركيب، ساذجة الوجه ظاهريا، هي في وجهها الآخر عنيفة وقاسية، لأنها لا تستتر خلف شيء يخفف وطأها، فهي مثيل صفعة تنبيه على خد غافل، ووخز إبرة في جسم خمول، لا تعترف بالتجميل والنفاق بل تخرج على القارئ عارية متوحشة لتضعه أمام الواقع كما هو وجها لوجه، فصورة (البغي ساعة المداهمة)، ورغبته في أن (يخرج عاريا ويعود إلى غابته) صورتان مجسدتان لهذا المنحى من التعبير، وكاشفتان عن مدى إلحاح الشاعر على أهمية إشعار الآخر بوحشية الواقع.
أما الخاصية الثانية لهذه الصورة الماغوطية فهي السخرية؛ إذ يبدو وهو في ذروة الألم والشكوى ساخرا عابثا، وكأنما السخرية صمام الأمان الذي يمنعه من الانفجار والتحول إلى أشلاء شاعر مستسلم خائب.
أما الثالثة فهي التموضع في جو الحلم، حين يجد أن قساوة الواقع وخروج الناس فيه عن الإنسانية ومعانيها، وعن القيم النبيلة وانعكاساتها، لا تصنع من الإنسان إلا عبدا حقيرا يجره الآخرون بخيط رفيع لا يراه، أو إمعة لا يملك من سلطة قراره شيئا إلا ما تريده الشعارات والأهواء والنفوس المريضة، لذلك نراه يلجأ إلى الصورة (الحلمية) ليستعين بها على الاستمرارية في الواقع الذي يشكو منه؛ ففي الواقع يسود الآخر ويعاني هو، وفي الحلم ينقلب الوضع مدعوما بجرعة من النقد الجارح والواعي في آن.
أما الرابعة فهي القدرة على توظيف الكلمات غير المتجانسة في إطار صورة دالة، ففي تجاهله دمشق في النص السابق يقول:
- دمشق؟ لا أعرف أما أو شقيقة بهذا الاسم
أهي خزانة أم مطرقة أم مرآة؟؟
فدمشق إن لم تكن أما أو شقيقة فهي خزانة أو مطرقة أو مرآة، ومن الصعوبة أن نجد نوعا من القرب بين المجموعتين(الأم – الشقيقة) و( الخزانة والمطرقة والمرآة) في وصف دمشق، لكن الشاعر في معرض عبثه وانتقامه المعنوي من المدينة يجمع بينهما، وإذا أضفنا إلى هذه الجزئية جزئيات أخرى في النص وصلنا إلى أن هذه الطريقة واعية وهادفة، وأن مجموع الكلمات الكثيرة والمتباعدة يوظف عادة لبناء الصورة الحقيقية التي خلفها الواقع في نفس الشاعر، حتى وإن كانت المدينة المكان في مثالنا لا تمثل هذا الواقع بقدر ما تمثله العلاقات بين الأفراد في مختلف مواقعهم ومسؤولياتهم.

الهقار والطوارق لـ "أوديت برنيزات"


ترجمة
د. رمضان حينوني
مخبر دراسة الموروث العلمي والثقافي لمنطقة تمنراست
المركز الجامعي لتامنغست


كتبت ( أوديت برنيزاتOdette Bernezat )[1] عن الهقار والطوارق في كتابها (رجال جبال الهقار) ما يأتي:

"الهقار.. إنه أرض واسعة في الجزائر، مركزه على بعد 2000 كلم جنوب الجزائر العاصمة، ومساحته أقل بقليل من مساحة فرنسا(480000 كلم مقابل551000 كلم). جباله العالية (حوالي 3000م) المحاطة من كل جانب بالرمال الممتدة في قلب الصحراء تعطي الهقار طابعا سحريا  وأسطوريا.. ألم تدفع جبال الهقار المدهشة الرحالة نحو البيئات الواسعة الأقل عدائية؟
لقد أعجب المكتشفون والعسكريون وعلماء الآثار وعلماء ما قبل التاريخ والجغرافيون والجيولوجيون وعلماء النبات بهذه الأرض العذراء وما زالوا كذلك، إنهم كثيرون أولئك الذين فتحوا لنا أبواب المعرفة  من (دوفيرييه duveyrier إلى الأب دي فوكو Pére de Foucauld )، مرورا بجيل كامل من الباحثين من أمثال (كونراد كيليان Conrad Kilian ، وهنري لوط Henri Lhote ، ووتيودور مونو Theodore Monod ) إضافة إلى عهد كامل من المنافسة من (فلاطيهFlatter  إلى لابيرينLapperine )، وبفضلهم أصبح الهقار معروفا لدينا، فهذا البلد المجهول والساحر أصبح أقل عدائية وسرية.
لنعترف أننا ساهمنا نحن أيضا في تقديم صورة مغلوطة أو مبالغا فيها عن شعبه.. أولئك الرجال الرزق الملثمين بشكل غريب، الذين يقطعون الأراضي الجبلية الصعبة .. سادة الصحراء الذين يغيرون على غيرهم وينهبون الرحالة المسافرين ويقتلون المستكشفين والمحتلين.. أولئك الذين يعيشون خارج قوانيننا.. وإلا كيف كان  يمكن أن نتصورهم؟ لقد كان موطنهم الأصلي عقبة ومحنة في نظرنا، وكانت لغتهم لغزا، وأصولهم علامة استفهام كبرى. لقد أخذنا عن الطوارق صورة شعب ملثم، أعينه تائهة في أعالي الجبال الصعبة أو في الأفق الممتد.
لكن وبعد الاهتمام بالأرض أصبح سكان الهقار مادة للفضول العلمي الواسع من اللغويين وعلماء الأعراق والأنترويولوجيين الذين اهتموا بالبحث عن هوية الطوارق، ولم يتركوا شيئا جانبا ، درسوا أشياء كثيرة في سبيل الوصول إلى النتيجة؛ من (الأب دي فوكو) الذي درس لغة (التماشق) إلى (مارسو غاستMarceau Gast ) الذي عكف على تغذيتهم.
بفضل هؤلاء حققنا بداية بطيئة من خلال دراسات مثل "طوارق الهقار" (لهنري لوط)، و" الهقار" لـ(كلود بلانغيرنونClaude Blanguernon ) التي حدثتنا عن شعب ملثم على رأسه ملك و يتكون من نبلاء وخدم وعبيد، وعن اقتصاد مغلق ومقايضات تجارية، وعن نظام أمومي مربك.. كما قربنا أدب وافر من الطوارق، بدءا من "أطلنتيد Atlantide " لـ(بيير بينواPierre Benoit ) إلى روايات (فريسون- روشFrison-Roche ).
هل وجد شيء لم يكتشف بعد سنة 1975 ؟ يسرني أن أقول  إن الصورة التي أخذناها والتي بقيت راسخة على امتداد نصف قرن لا علاقة لها بتاتا بالواقع الحالي، لقد بنيناها انطلاقا من الحقيقة ولكن بتشويهها أحيانا، وهي جزء من الأخطاء التي لا بد منها والتي بدونها لا تتقدم المعرفة. و بالطبع ، ما تزال ثمة أسئلة تحتاج إلى تفسير ما دام التاريخ يمر ، وكل يوم في حياتنا المعاصرة يعقد سيرورة التاريخ.
لا أدري إلى أين تمضي الحقيقة، وأين يتوقف الخطأ، لست عالمة و لا واسعة المعرفة، لكنني اكتشفت في الهقار ما هو أكثر من أرض ساحرة.. لقد أحببت فيه بلدا من جبال عنيفة وسهول منبسطة، بلدا تتوزع فصوله بين خريف دافئ وشتاء متجمد وصيف حار، بلدا مغلفا بسماء ليست دائما زرقاء أسطورية، واكتشفت في شعبه ليس فقط أناسا بدوا في انتجاعهم السرمدي، بل رعاة هادئون متمسكون بأرضهم بين حدين مضبوطين.. اكتشفت أن هذا الشعب الملثم الذي لا نرى منه غير العينين له وجه كالذي لدينا، بالتعابير التي لدينا من بسمة وهموم ومزاح وقلق وحزن وسعادة." [2]




[1]    ولدت أوديت برنيزات عام 1940 في فرنسا قبالة البحر الأبيض المتوسط، ارتبطت حياتها الأولى بجبال الألب متسلقة ومدربة تزلج ، وكان يمكن أن تشدها هذه الجبال إليها مدة طويلة لأنها عرفت بحركيتها الفريدة وقدرتها على التنظيم. في عام 1967، اكتشفت رفقة زوجها (جان لوي برنيزات Jean-Louis Bernezat ) الصحراء الجزائرية، ورغبت أكثر  في شق الدروب الوعرة في جبال الهقار، وفي عام 1969 أنشآ معا وكالة تسمى " رجال و جبال " ، وهي أول منظمة محترفة  في فرنسا وحول العالم  تقترح السفر على ظهور الجمال أو مشيا على الأقدام في الصحراء. وقد كتب لهذا الأسلوب الفريد الدوام مدة 32 عاما برفقة أدلاء من الطوارق والشعانبة  والموريتانيين والتونسيين.
أحصت أوديت برنيزات 180 رحلة قامت بها في صحاري هذه المنطقة شرقا وغربا، شمالا وجنوبا، في مقابل 200 رحلة لزوجها (جان لوي) قطعت خلالها الآلاف من الكلومترات دون محرك سيارة، وتوجت كل ذلك بمجموعة  من الكتب والمقالات.  للمزيد ينظر الرابط:

[2]  Odette Bernezat. Hommes des montagnes du Hoggar.edi. Glénar. Grenoble.