الخميس، 22 ديسمبر 2016


الاغتراب من خلال الموسيقى 
حزن وحنين وأشياء أخرى 

الأدب العربي القديم في كتابات المستشرقين الفرنسيين:

الأدب العربي القديم في كتابات المستشرقين الفرنسيين:
(أندري ميكال) و(شارل بيلا) نموذجين


د. رمضان حينوني
المركز الجامعي لتامنغست/ الجزائر

[أنا أقرأ الأدب القديم وحده لأن الأدب العربي
 الحديث أدب غربي بحروف عربية] شارل بيلا

ملخص البحث:
يحاول هذا البحث أن يعالج رؤية الاستشراق الفرنسي للأدب العربي انطلاقا من بعض كتب علمين تركا بصمة واضحة في مسيرة الاستشراق الفرنسي والعالمي هما شارل بيلا وأندري ميكال، وتأتي أهمية دراساتهما من كونهما تشكلت عندهما معرفة شاملة باللغة العربية وأدبها وبالنص القرآني وتأثيراته فيهما.
ونجد من القضايا الرئيسية في هذه الرؤية، أدبية القرآن والعناصر الأدبية التي تميز النص العربي انطلاقا من الدراسات الأسلوبية، إلى جانب الميزات التاريخية والاجتماعية التي صاحبت النص الأدبي عبر مساره التاريخي، مع بعض المحطات النقدي للتراث الاستشراقي الفرنسي.

الكلمات الرئيسية: أدب عربي- استشراق فرنسي- منهج تاريخي-القرآن- الأسلوب- شارل بيلا- أندري ميكال- تراث عربي.







مقدمة:
لا يمكن إنكار دور المستشرقين الإيجابي في دراسة الأدب العربي وإضاءة الكثير من جوانبه التي كانت مظلمة بفعل عوامل كثيرة أهمها ميل العرب الواضح للعلوم الدينية، وانحصار التعليم المدني في بعض المناطق الآهلة، إضافة إلى الأمية التي كانت تضرب الوسط الاجتماعي العربي حتى بداية القرن العشرين.
وبصرف النظر عما يقال عن أهداف المستشرقين من دراسة الأدب والتراث العربيين، فإن الفائدة التي جناها العرب من تلك الدراسات لا تنكر، سواء أراد المستشرقون ذلك أم لم يريدوا، بل إن ما يبدو للعرب خطأ في استنتاجاتهم كان سببا في إنتاج دراسات ترد على تلك الأخطاء وتصوبها من وجهة نظر علمية أو منهجية أو تاريخية، حتى غدت افتراءات بعضهم مكشوفة، وأغراضهم معروفة. أما ما توصلوا إليه من دراسات علمية نزيهة فقد استفاد منه العرب وثمنوا قيمته وبنوا عليه كثيرا من كتبهم في الأدب تاريخا ونقدا.
 وهكذا، ترك التراث الاستشراقي آثاره الواضحة في الدراسات العربية والإسلامية، كيف لا وقد جند ترسانة هائلة من الإمكانات البشرية والمادية للوصول إلى أهدافه متعددة الأوجه؟ لكن العقل يدعونا إلى الإنصاف في الحكم على هذا التراث، بل إن المنطق العلمي يفرض علينا أن نميز بين التيارات والتوجهات، وأن نحتكم إلى النصوص والوقائع التي ترفض أن نضع الفكر الاستشراقي كله في سلة واحدة؛ خاصة إذا أخذنا بعين الاعتبار الفصل بين الدراسات الدينية والدراسات الأدبية، فإذا كانت أخطاء المستشرقين في الأولى كثيرة، فإنها في الثانية أقل، على الرغم مما تمكنوا من تحصيله من آثار أدبية ومخطوطات نفيسة لم تتوفر لدى كثير من الدارسين العرب.
ولقد اهتم الاستشراق الفرنسي بالأدب العربي اهتماما متميزا، لعل ذلك يعود إلى أسباب عدة منها ريادة الفرنسيين الأدبية في أوروبا فترة طويلة، واحتكاكهم المتواصل بالبلدان العربية، بل ومكوث بعضهم في هذه الدول ردحا من الزمن، ومولد آخرين بها. لكن السبب الأهم هو حصولهم على عدد كبير من المخطوطات العربية التي ما تزال المكتبات الفرنسية تزخر بها إلى الآن. ومهما يكن من أمر، فإن الدراسات الأدبية الفرنسية حول الأدب العربي تكاد تكون المرجع الأساس لكثير من المؤلفات العربية التي تناولت تاريخ الأدب وقضاياه في الفترة الكلاسيكية. ونحاول في هذا البحث أن تطرح جملة من الأسئلة أهمها:
لماذا ظلت نظرة المستشرقين الفرنسيين للقرآن والإسلام غالبة على كثير من دراساتهم اللغوية والأدبية؟ وإلى أي مدى يمكن اعتبارها عاملا ساهم في تطوير النقد الأدبي في عصر النهضة وما بعدها؟
لماذا حرص المستشرقون الفرنسيون على التفريق بين اللغة العربية الكلاسيكية وبين اللغات العامية العربية في الوطن العربي؟ وكيف نظروا إلى مستقبل الفصحى وانعكاسات ذلك على دعاوى الحداثة؟
ما هي العيوب التي اتسمت بها الدراسات الاستشراقية في هذا المجال الحيوي في الثقافة العربية؟ 
ونتناول هذه الأسئلة من خلال المحاور الآتية:
أولا: ببليوغرافيا الدراسات الاستشراقية الفرنسية.
ثانيا: أدبية القرآن في نظر المستشرقين الفرنسيين.
ثالثا: السجع بين النص القرآني والنص الأدبي.
رابعا: أندري ميكل والأدب العربي.
خامسا: آراء شارل بيلا حول الأدب العربي.

أولا: ببليوغرافيا الدراسات الاستشراقية الفرنسية:
يجد الباحث في التراث الاستشراقي الفرنسي عددا محترما من الدارسين الذين اهتموا بالأدب العربي من جوانبه المختلفة، فمنهم من عكف على " دراسة اللغة العربية وفقه اللغة والأدب العربي أو اشتغل بالمعاجم  وما شابه ذلك، ولهؤلاء بحوث قيمة مفيدة "[i]، ومنهم من تضمنت بعض أعمالهم الاجتماعية أو الإنسانية مثل الدين والتاريخ والفنون وغيرها نتفا من إشارات إلى اللغة والأدب في سياقات معينة.
 فالنوع الأول يعرف من عنوانه غالبا، فـجاك بيرك Jacques Berque( 1910 - 1995 م) الذي فتن بالمغرب الأقصى ودرس جوانب الحياة فيه في مؤلفات كثيرة، نجد له (اللغة العربية الحاضرة) وهو كتاب طرح فيه إشكالية اللغة العربية في المغرب بين الفصحى والعامية، أو بين العربية الكلاسيكية الأكاديمية واللغة المنطوقة المستعملة، و(ترجمة معاني القرآن الكريم). بينما أولى ريجي بلاشير Regis Blacher (1900- 1973 م) اهتماما بالأدب العربي، حين ألف عمله الشهير (تاريخ الأدب العربي Histoire de la Litterature Arabe) على غرار ما فعل بروكلمن الألماني، وهو عرض لنشأة التدوين التاريخي في الإسلام في ثلاثة أجزاء، توقف عند القرن الثاني الهجري أو الثامن الميلادي، كما كتب (شاعر عربي من القرن الرابع الهجري: أبو الطيب المتنبي)، وأنجز ترجمة فرنسية لكتاب (طبقات الأمم) لصاعد الأندلسي. وترجمة لمعاني القرآن الكريم بعنوان (القرآن)، عكست قصور ترجمات المستشرقين في نقل المعاني المضبوطة لبعض ما جاء فيه لأسباب معينة. وفي مجال اللغة ألف كتابا بالاشتراك مع ماوريس ديمومبين بعنوان (نحو العربية الفصحى Grammaire de l'Arabe Classique).
أما تلميذه اندري ميكال André Miquel فكتب كتابه (الأدب العربي)، وهو مسح مختصر للأدب العربي في عصوره المختلفة، وألف شارل بيلا Charles Pella (اللغة والأدب العربي)، وغاسطون فييت Gaston Wiet (1887-1971) كتابه( مدخل إلى الأدب العربي  Introduction a La Litterature Arabe).
أما النوع الثاني فنجد فيه إشارات أو مباحث عن اللغة والأدب لها علاقة بمجال إنساني أو اجتماعي معين، مثل ما نجده عند إيميل درمنجم E.Dremenghem  في كتابه (محمد والتقاليد الإسلامية)، وروبير مونتران Robert Montran في كتابه (التوسع الإسلامي)، ودومينيك سوردال  Dominique Sourdel في عمله (تاريخ العرب) و(الإسلام)، وماكسيم رودنسون Maxime Rodinson في كتابه (محمد) (1961م) وبلاشير في عمله (قضية محمد Le Problème de Mahomet)، الذي لخص فيه أبحاث المستشرقين الذين كتبوا عن حياة النبي، وغيرها كثير.
ولا يتوقف الأمر عند هذه الأسماء؛ فثمة غيرها تعددت رؤاها واستنتاجاتها، مما استوجب الاهتمام بها عربيا إما لتصحيح بعض ما جاء فيها بحسب النظرة العربية الإسلامية، أو تثمينه والبناء عليه.


ثانيا: أدبية القرآن الكريم في نظر المستشرقين الفرنسيين:
مضت الدراسات الأدبية واللغوية جنبا إلى جنب مع الدراسات الإعجازية التي ركزت على التفوق الذي حققه القرآن الكريم على مستوى التوظيف البياني خاصة، والفترة الممتدة بين القرن الثاني والخامس تركت هذا الانطباع وعمقته، حتى غدا كل إنجاز أدبي يقاس بمدى تشربه من روح لغة القرآن وبيانه.
وكان طبيعيا أن يلتفت المستشرقون إلى القرآن الكريم ليس فقط بوصفه كتابا دينيا، بل أيضا بوصفه جامعا لخصائص الأدب ومهيمنا عليه، بل إن منهم من تعامل مع القرآن على أنه نص أدبي له تأثره الواضحة بالشعر الجاهلي الذي امتد قبله لقرن ونصف على الأقل وتأثيراته في الشعر العربي في عصوره المتتابعة بعده؛ فماكسيم رودنسون وضع أدبية القرآن خارج نطاق المألوف من الأدب عند العرب، فهو يرى" أن الرسالة التي تلقاها محمد هي أقرب إلى الشعر الخالص، بقدر ما تبتعد عن الشعر التقليدي"[ii]، وقد توصل إلى هذا الاستنتاج بعد مقارنة عميقة بين لغة الشاعر والخطاب القرآني الذي استثمر خصوصيات اللغة، بشكل يختلف كلّ الاختلاف عما يستطيعه الشاعر.
 أما غاسطون فييت فقد خصص لهذا الموضوع حديثا في كتابه(مدخل إلى الأدب العربي)، إذ ألحّ على أن  النص القرآني ليس خارجا عن نطاق" نثر الشاعر" رغم اعتباره قمّةً من حيث القيـمة الأدبية.[iii] وكان فييت حريصا على اعتبار هذا النص حلقة وسطى بين الشعر وبين النثر في الأدب العربي، وقد عبّر عن ذلك في استنتاج مفاده " أن من بين مزايا القرآن أنّه كان إيذانا بانطلاق النثر العربي."[iv]
  وربما أراد من هذا الوصف ما أراده سيد قطب، حيث يقول رداً على رأي طه حسين في القرآن: "فالقرآن نثر متى احتكمنا للاصطلاحات العربية كما ينبغي، ولكنّه نوع ممتاز مُبْدِع من النثر الفني الجميل المتفرِّد."[v]
 وإذا كانت هذه الآراء في أغلبها نظرية وعامة، وردت ضمن وصف شامل للنص القرآني، فإن آراء أخرى انبنت على أساس تطبيقي ملموس؛ من ذلك ما توصل إليه جاك بيرك في دراسته لبعض سور القرآن، مؤكدا على أهمية الدراسات الصوتية القائمة على التحليل النصي، في النظر إلى الجانب الإيقاعي في القرآن الكريم، هذه الدراسات التي تخرج عن المجال الفيلولوجي الذي ساد طويلا؛ ففي سورة النمل على سبيل المثال يشير بيرك إلى أهمية الدراسة الفونولوجية للنص، التي تساعد على فهمه؛ فالتغيرات الصوتية مهمة، ويلح على أن تناسق النص يمكن أن يقود إلى فهمه[vi]، فهو لا يفصل النظام الموسيقي عن مجال الدلالات والمعاني، مما يعني أن الإيقاع القرآني، ومهما قيل عنه من حرارة وقوّة وبروز بما يشبه الشعر، فإن المعنى هو الذي يقوده، ويتحكّم في مساره. ولعلّ هذا ما ألحّ عليه الدارسون العرب، الذين وضعوا نصب أعينهم أن القرآن كتاب دعوة قبل أيِّ اعتبار آخر، وأن كنوزه المعرفية والشكلية ما هي إلا خادمة لغرضه الأساس ذاك.
ولقد كانت لبلاشير معرفة بقيمة القصة في القرآن تنطلق من محيطه الأدبي والفكري، من ذلك اعتباره أن" اللغة العربية تضفي على الحكاية طابعا غريبا، بميزتها المكثفة، وباهتمامها بالتذكير أكثر منه بالوصف. "[vii]
   كما وقف بلاشير في كتابه (تاريخ الأدب العربي) على بعض الصور القرآنية، خاصة تلك التي حفلت بها الفترة المكية مثل الصور الأخروية الواردة في سورة الغاشية، والمبنية على أساس التقابل بين الأبرار والأشرار، ثم قال معلقا: "إن للأوصاف الأخروية الواردة كما هي في السور طابعا استحضاريا مثيرا مميزا للذهنية العربية، وإن ترديد الأجزاء التفصيلية ذاتها، عوضا عن أن يسبب كللا، فهو يؤثر على العـقل في شكل هاجس ثابت، مُطلِقا زمرة من التصورات الثانوية التي لا تؤلف  دون ريب لوحة، ولكنها تفجر محيطا." [viii]
  وهكذا تستوقف بلاشير في الآيات المكية عموما والقصيرة منها على وجه الخصوص القوّة في تصوير أشياء غيبيّة، من خلال مظاهر ماديّة، فتكون عناصر الصورة منتزعة من الحياة الدنيا، وكأنما تدفع القارئ إلى تصور المصائر الأخروية بناء على ما يمكن أن يدركه في عالمه الأرضي. والمقاربة بين العالمين هي الكفيلة بدفع المرء إلى تصـحيح مساره، آخذا بعين الاعتبار موقع المتع  واللذات أمام  الفزع  الناتج عن التهديد بيوم الحساب.[ix] 
هذا الذي دفع المستشرقين إلى الإشادة بدور البيان القرآني الكبير في التأثير في القارئ، فإذا كان فريدريك نيتشه يعتبر حقيقة اللغة في أنها "جيش متحرك من الاستعارات والكنايات والتشبيهات المجسمة"[x]، فإن العربية -على ما يبدو- من أكثر اللغات تجسيدا لهذا المعنى، بشهادة المستشرقين. يقول جاك بيرك: إنّ " البيان العربي يلح على خصائص من قبيل غنى المجاز، والإيجاز، والإيقاع الموسيقى". [xi] وهي إشارات لا تخرج عن كونها إعجابا بهذا البيان في إطاره الأدبي، دونما ربط له بإعجاز القرآن كما نجده عند الدارسين العرب، وسبب ذلك في نظرهم هو " أن الإعجاز الذي ارتبط بالقرآن لم يكن أبدًا مهمّة أدبية، بل يعود إلى قدسية مُنْشِئه." [xii]

ثالثا: السجع بين النص القرآن والنص الأدبي
 ليس قصدنا الإحاطة في هذا البحث المحدود بالمسائل الأدبية التي أثارها المستشرقون في تناولهم للقرآن الكريم، لكن يمكن التوقف مثلا عند ظاهرة السجع التي حظيت بحديث مستفيض من جموع المستشرقين، لارتباطها بنمط البيان العربي قبل الإسلام، كما تبدو على الأقل من خلال نصوص الكهان والوصايا والحكم والأمثال وغيرها. فجاك بيرك، يرى" أن القرآن جاء بنموذج مثالي للسجع، في إيقاعه وجرسه، لكنْ، بدلا من أن يكون مدعوما بالرسالة النبوية حدث العكس، إذ غُيب السجع ، ليطوى في التعابير الشعبية "[xiii]، بسبب خوف الكتاب من تمثيل أسلوب القرآن، حسب اعتقاده.
 ويدلي بلاشير برأي في هذا الشأن، ويُعيد الإهمال الذي أُصيب به السجع بعد نزول القرآن إلى سببين: الأول هو ارتباط هذا الشكل من النثر بطقوس الكهّان، مما حال دون اعتباره أداة تعبيرية خاصة، والثاني هو اعتبار سجع الكهّان شيطانيّ المنشأ، لاختلافه الجوهريّ عن الوحي المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم.[xiv]
 لكن بلاشير لا يبدو مقتنعا تماما بهذه الأسباب التي أبعدت السجع عن دائرة التعبير والاهتمام، بل يرى ذلك" شبهة"،لأن القرآن ملك القدرة على" تأريخ فجر عهد جديد للسجع."[xv] وإذن فالفاصلة ما هي - في النهاية - إلا الشكل الجديد للسجع العربي.
 وفي هذا الاتجاه تتجه أغلب آراء الغربيين؛ فهم يرون أن وجود السجع في القرآن، ما كان ليُغطى عليه، لمجرد ارتباطه  بالكهان قبل الإسلام، وينتقدون ضمنيا غيابه عن الكتابة الأدبية في فترة ما بعد الوحي مباشرة، على اعتبار أن قيمته في أدبية النص واضحة. كما أنّهم يجمعون على أنّ اختلافه عن سجع الكهان، لا يعني كونه نوعا جديدا، بل هو سجع اكتسى شيئا كثيرا من الحرية والطلاقة، وهي نظرة لا تلتقي - كما رأينا - وما ذهب إليه الباقلاني وغيره، من انتفاء السجع عن القرآن جملة.
         إن حديث المستشرقين عن تغطية السجع بالفواصل، إشارة إلى تكلُّف المسلمين عناء إبعاد القرآن في شكله، على الأقل، عن أشكال التعبير السائدة في زمان نزوله، غير أن تميّز القرآن لا يدفع إلى نفي أنه جاء في لغة العرب بكل ما فيها من ألوان التعبير المعروفة لديهم، بل لهذا السبب في نظر كثير من الإعجازيين تحدى الله تعالى العرب على أن يأتوا بمثل هذا القرآن، وهم في النهاية يرون أنّ السجع الذي يعرفونه لا يُشبه هذا الذي يجدونه في كلام الله، وعلى ذلك بنوا حكمهم.        
ومن المستشرقين من تفهم هذا الطرح الذي فرضه منطق الإعجاز، فقد أدرك دومينيك سوردال هذا الفرق بين النمطين عندما قال:" إن الشكل الخارجي للقرآن يُذكِّر بأسلوب الكهان، الذي منع محمد اعتباره منه، كما أن آيات القرآن تنفلت من التبعية للقافية، عندما يقودها المعنى."[xvi] بينما يكتفي ماكسيم رودنسون بالتعبير عن قيمة الإيقاع في القرآن الكريم، فبعد أن حدثنا عن خصائص العربية من الناحية اللسانية والحركية والإيقاعية، يبلور رأيه قائلا:"إنه من الصعب الإفلات من أثر الحركة المطّردة المتدافعة، ومن جرس اللفظ، كما أن تجدد الفكرة والفعل والإيقاعات تسحر المستمع، وتقربه من حالة تنويمية، بحيث يستقبل إيحاءات الكلمة، واللحن، والصورة بدون مقاومة، وكأنه في حالة وجد.[xvii]
وهكذا نجد فريقا من الدارسين لا ينفون وجود السجع في القرآن الكريم، ولكنهم يلاحظون أنه عنصر واحد من عناصر شتى لفن القول الأدبي، وعليه فلا يجب أن يركّز على اعتباره ظاهرة مميّزة للنص القرآني. وهذا التركيز على المستمع في الحديث عن الإيقاع، قد يعطي الانطباع بأنه موجه إلى ما يمكن أن نسميه (التأثير العاطفي)، لا التأثير العقلي. ويبدو أن الأمر- في النهاية- جزء من النظرية القائلة بأن العرب أمة عاطفية، مثلها مثل أية أمة بدائية، بحسب المنطق الأنثروبولوجي. فعندما يقول مستشرق مثل غاسطون فييت في طبيعة الآيات المنزلة: "لا ننس أن الأمر يتعلق بمقاطع موجهة إلى ضرب المستمع لا القارئ "[xviii]، فإننا نلمس التقصير في فهم القيمة المزدوجة للإيقاع: القيمة الصوتية والقيمة الدلالية؛ فالجملة القرآنية أبعد ما تكون عن القوالب المنتظمة التي تحكم الشعر، مما يستوجب وجود البعد بين إيقاعيهما، الأمر الذي جعل شعراء في صدر الإسلام يخرصون عن قول الشعر إجلالا للنص القرآني.
لقد سقنا هذا الحديث عن السجع بغرض بيان الأهمية التي أعطاها المستشرقون لهذا العنصر الأدبي لأغراض شتى، فهم ربطوه بطبيعة الوحي تارة، وبالطقوس المستوحاة من المصادر الخارجية تارة أخرى، كما جعله بعضهم علامة أدبية عربية سيكون لها امتداد في الأدب العربي حتى عصر النهضة العربية نهاية القرن التاسع عشر.

رابعا: أندري ميكال والأدب العربي:
أحاط أندري ميكال[xix] علما بالأدب العربي قديمه وحديثه، وسار على نهج أستاذه بلاشير في كثير من الأحكام التي أصبحت بمثابة القواعد الثابتة لكل دارس غربي للتراث الأدبي العربي، على الرغم من تحرره من القيود التي يشعر الدارس العربي أنه ملتزم بها، أهمها قدسية القرآن وسلطة الدراسات التي بُنيتْ عليه. لهذا وجب التعامل مع آرائهم بعلمية لا بعاطفة الميل إلى ما ذهب إليه نقادنا ومفكرونا الأوائل، فهم يخاطبون القارئ الغربي بالأساس؛ دون أن يعني ذلك طبعا أن المستشرقين على حق ابتداء في ما توصلوا.
وأندري ميكال يرى أنه: "إذا لم يكن القرآن -تاريخيا- أول عمل أدبي عربي لأنه سبق بالشعر الجاهلي، فإنه يعد بحق أول عمل في الآداب العربية، فأهميته الخالصة والنتائج التي ترتبت عنه جعلت منه أثرا خالدا"[xx]، ويستدرك في هامش نصه أن القرآن في نظر المسلمين ليس عملا أدبيا وإنما وحي من الله أنزله جبريل على النبي محمد.
 هذه هي النافذة التي دخل من خلالها هذا المستشرق إلى آرائه المتعلقة بالقرآن الكريم والأدب العربي القديم؛ إذ ينصبُّ كل حديث عن أحدهما من خلال ما يتفق أو يختلف فيه عن الآخر. ففي مجال الإيقاع مثلا يقول أندري ميكال: "إن تلقائية الجملة تتبع مقتضيات الوحي، ومن أجله وحده تُحدث الإيقاعات والقوافي، التي تخضع لهذه التلقائية، اختلافا مُهِمًا مع الشعر المحصور داخل بنائه الصارم، وتعقيدات العروض."[xxi]
هذا التميز الذي يفرضه النص القرآني يعود في نظر ميكال إلى عقيدة الإعجاز- كما أسماها- التي تفرض وضع النص القرآني فوق أية صيغة تعبيرية يمكن أن تنشأ في التعبير، يقول:" إن الارتياب الذي أُخِذ به السجع، بسبب الاتّهامات التي وجّهت إلى النبي، جعلته مدعوما بآليات أخرى أكثر تعقيدا، تمثلت في استعمال القرآن لنثر- سواء وصفناه سجعا أو لا- يلعب فيه الإيقاع والترديدات الصوتية دورا كبيرا. وبموازاة ذلك، أعادت عقيدة الإعجاز طرح نموذج  للتعبير، والإعلان عن فشل أيّة محاولة لمعارضة أسـلوب القرآن. "[xxii]
وإذا خرجنا من دائرة الرؤية الاستشراقية لعلاقة القرآن بالأدب العربي في ملامحه الأولى، وجدنا أندري ميكل يجول بنا في مجال الأدب العربي تاريخيا بالشكل الذي نجده عند بلاشير وبروكلمان وغيرهما. ويمكننا الوقوف هنا على بعض الرؤى التي عبر عنها بخصوص النثر والأدب، وهي التي بنتها الدراسات الاستشراقية منذ أمد غير قصير، وأصبحت عماد كثير من الكتب العربية التي تعنى بتاريخ الأدب العربي.
       لقد رأى ميكال أن نشأة النثر العربي القديم تعود إلى الحقبة العباسية بالأساس، لأنه في المراحل السابقة لم يكن واضح المعالم أو لافتا للانتباه على الأقل، ويعود ظهور النثر العربي القديم في نظره إلى مجموعة عوامل محتملة أهمها:
-        قيام تجارة نشيطة إلى المناطق البعيدة، وبخاصة إلى البلاد التي لها تقاليد أدبية عريقة كبلاد الفرس والروم، وروادها نفر من الكتاب والبحارة والرسل والرحالة الذين قاموا بتسجيل ملاحظات رحلاتهم.
-       المدن الإسلامية المفتوحة خارج الجزيرة العربية مثل دمشق والقاهرة وما حدث فيها من تداخل ثقافي بين العرب الفاتحين والسكان الأصليين ذوي الثقافة المختلفة.
-       تشكل نظام إداري عماده الدواوين التي كانت تستقطب الكتاب، وتنتج الوثائق المختلفة من رسائل وإحصاء وغير ذلك.
-       إضافة إلى الاكتشافات العظيمة التي ظهرت في الفترة العباسية وما تلاها، ونتج عنها عدد كبير من المؤلفات في مختلف العلوم.[xxiii]
      ويركز ميكال على تأثير العنصر غير العربي في تنشيط الكتابة النثرية في الدولة العربية، بل يلمح إلى أن هذا النثر إنما يعود فضله إلى هؤلاء الموالي[xxiv] الذين أتاح لهم الحكم العباسي فرصة خدمة اللغة العربية بما استفادوا منه من عناصر أدبية أعجمية.
         وفي موضوع متصل، يؤكد المستشرق أن كلمة أدب في النثر العربي القديم، وخصوصا بدءا من القرن العاشر الميلادي لم تكن تعني حقلا معينا من المعرفة كما هو معروف اليوم، أو لم تكن تعني فقط الأدب الصافي المعروف من خلال المعايير المعجمية والأسلوبية التي طرحتها نظرية الإعجاز على سبيل المثال، بل "مس جميع مجالات الأدب  التي تخرج عن المقياس الصارم للكتابة بوصفها فنا أو أسلوبا فنيا متميزا. فالكتابة في مجال التاريخ والرحلة والاستكشاف والجغرافيا بل حتى تلك التي تحتوي على قدر من التقنية، كل ذلك كان يندرج بشكل أو بآخر تحت مسمى الأدب[xxv].
وفي كل هذه الحالات التي يتجسد فيها الأدب بمعناه العام، يرى "ميكال" أن السجع بوصفه نسقا إيقاعيا والبديع بوصفه زخرفا استطاعا بسط سلطانهما على الكتابة العربية، مثلما نجده عند أبي العلاء المعري في رسالة الغفران، أو بديع الزمان الهمداني في المقامات، مع التفات ملحوظ إلى ما يمنح النص القوة في المعاني والنسق البنائي، على الرغم من أن هذه الصورة ستتعرض فيما بعد القرن الرابع للتغير والتشويه.
لكن أندري ميكال لا ينظر إلى وظيفة النثر العربي القديم الأساسية إلا بوصفها "توضيحية أو تعليمية أو قصصية، وهو في خدمة ذلك يستطيع أن يحاول، إذا حالفه الحظ، أن يكون الانعكاس المتواضع الأمين لذلك الضوء المطلق الذي يرمز إليه القرآن."[xxvi]
وإذا شئنا بلورة رأي عام حول نظرة ميكال للأدب العربي، أمكننا القول إن خبرة هذا المستشرق في البحث المرتبط بالأدب العربي والثقافة العربية جعلته قادرا على فهم جذور وخصائص واتجاهات ثقافة تختلف عن الثقافة التي ينتمي إليها، فالتزم قدرا مقبولا من الموضوعية في تشريح الظاهرة الأدبية العربية انطلاقا من اللغة التي تمكنت من الصمود في وجه التغيرات والأحداث بفضل هذا القرآن الذي ضمن لها البقاء والتجدد. ويمكن أن يعد كتابه بعض كتبه الأخرى تلخيصا محمودا للصورة الموسوعية المفصلة التي رسمها الاستشراق لأدبنا العربي، والتي بنى على أساسها كثير من الدارسين العرب تأريخهم لأدبهم، بل ولتاريخهم أيضا.


خامسا: آراء شارل بيلا[xxvii] في الإدب العربي:
ساهم تواجد بيلا في المغرب العربي بين الجزائر والمغرب، في تأثره بالأدب العربي، وولعه بكل ما يرتبط بالعرب من تراث، فقد تمكن إلى حد ما من اللغة العربية، وأسعفه المنهج التاريخي والاجتماعي في دراسة ذلك التراث بما يكشف عن مميزاته وخصائصه، كما نوع الدراسات الأدبية بين قديم وحديث؛ ففي الوقت الذي خصص فيه جهدا واسعا للجاحظ والبيئة العباسية، نجده يتتبع اللغة العربية الحديثة في دراسات كثيرة، بل يتجاوز ذلك إلى البحث في المستويات اللغوية التي تشكل ثقافة العرب، والمغاربة منهم على وجه الخصوص.
فقد تناول شارل بيلا في مؤلفه (اللغة والأدب العربي) تاريخ الأدب العربي في مراحله المختلفة، وبشكل غاية في الاقتضاب، من خلال الكشف عن خصائص اللغة العربية في شكلها الأدبي والشعبي، في أربع عصور هي العصر الجاهلي إلى حدود سنة 750م، فالعصر الإسلامي الممتد من بعثة النبي إلى الغزو المغولي وسقوط بغداد عام 1258م، فمرحلة عصر الظلمات الذي ينتهي سنة 1800م، ثم عصر النهضة بدءا من هذا التاريخ.
ولم يفت بيلا الخوض في القرآن الكريم وظلاله الأدبية، فمن آرائه التي سجلها في كتابه هذا، قوله: إن" ذوق العرب للتعابير المجازية المكثفة خاصة في الصيغ المثَليّة كان دائما حيا."[xxviii] ويقول في موضع آخر: " لقد وُجِّه المجاز إلى لفت النظر إلى مواطن الجمال في القرآن"[xxix]، وهو يدرك أن هذه التعابير المجازية هي العمود الأساس لكل بناء أدبي فني، وقد أبدع العرب فيها من منطلق المثال القرآني الماثل في الأذهان.
أما عن السجع فهو يقر بشكل واضح باختلاف الفواصل القرآنية عن السجع المعروف عند العرب. فعلى الرغم من أن "عقيدة إعجاز القرآن هي التي وقت الأدب العربيّ من هذا النوع من التعبير"[xxx]، إلا أن" القرآن كرَّس السجع، بعد أن كان الكهان قد استعملوه قبل الإسلام"، والدليل هو أنه عاد إلى نشاطه وقوّته بعد قرنين أو ثلاثة، وكأنه يريد التلميح إلى أن السجع أصيل في اللغة العربية كما هو أصيل في القرآن الكريم.
ولا نجد اختلافا بينا بين هذا الكتاب وتلك التي كتبها بلاشير وميكل وغيرهما، إذا استثنينا حجم العمل بطبيعة الحال. وبخاصة تركيز جمهور المستشرقين على دور غير العرب في المساهمة في إعطاء الأدب العربي تنويعا في الإنتاج ودفعا في وتيرة التطور، وميزة في التعبير، وهي الإشارة الواضحة إلى تأثر الأدب العربي بالرافد الأجنبي والفارسي منه على وجه الخصوص، أو إلى التقليل من قيمة الإبداع لدى العربي رجل الصحراء الجرداء القاحلة عديم الخيال والابتكار.
لقد ترددت هذه المقولة كثيرا عند المستشرقين، وجسدوها من خلال الإشادة الشعراء والناثرين الأعاجم كابن المقفع في كليلة ودمنة، وأبي نواس وبشار بن رد في الشعر، وغير هؤلاء، وكأنما أهملوا أن البيئة العربية التي عاش فيها هؤلاء الموالي هي التي صقلت مواهبهم وشكلت إبداعهم، وأن عبقرية اللغة العربية هي التي أتاحت لهؤلاء وغيرهم أن يخلدوا في التاريخ الأدبي. 
غير أن الغربيين عموما كثيرا ما يقعون في شيء من التناقض في تناولهم للقضايا العربية، تاريخية أو أدبية، قديمة أو حديثة. من ذلك أننا إذا قارنا ما ورد في كثير من دراسات بيلا مثلا حول اللغة والأدب العربي نجد إشادة بهذه اللغة التي استطاعت أن ترتفع باللهجات القبلية البدائية إلى مصاف اللغة الحضارية، والتي تمثل أمة تصبو إلى استرجاع مجدها الذي تسببت في إضاعته جملة من الظروف، لكننا نجد إلى جانب ذلك آراء أخرى من قبيل قوله:" يعتري القارئ بصورة عامّة الملل عند قراءة الآثار العربيّة مهما كان موضوعها وعنوانها مغريين"[xxxi]
لا أدري إن كان بيلا يقصد بذلك أن تبويب المسائل وترتيب المادة هي مبعث الملل، أم أن الملل من اللغة العربية نفسها بوصفها تعبيرا عن فكرة معينة؟ يدفعنا الترجيح إلى الاحتمال الأول، خصوصا إذا كان يشتغل على المخطوطات العربية القديمة، وإلا كيف نفهم اشتغاله على أعمال الجاحظ صاحب الحيوان والبيان والتبيين ويشعر بما عبر عنه؟
ولا يغب عن علمنا أن تمكن المستشرقين من اللغة الغربية ليس تاما مثل أهلها، وإذا أخذنا بمنطق خصوصية اللغات الشرقية مقارنة باللغات الغربية، فإننا نجد المستشرقون وإن أجادوا فهم العربية، فهم لم يجيدوا تذوقها كما ينبغي أن يكون، وإذا كنا لا نعيب عليهم هذا تحديدا، لبعدهم عن طبيعة العربي الأدبية، فإننا نعيب عليهم خوضهم في بعض المسائل الدقيقة التي لم يصلوا فيها إلى مستوى التحكم فيها. ثم إنهم أحيانا "يتعاطون مع الموضوعات المتناولة من منظور شخصي ومصلحي، ويتصرفون في فهم النصوص وترجمتها، ونقلها إلى لغاتهم، حسب أمزجتهم و تصوراتهم."[xxxii]
ومهما يكن من أمر، فإننا لا نريد من المستشرقين أيا كانت توجهاتهم أن يمدحوا تراثنا ويثنوا عليه، فحسبنا وقد أتيح لهم الحصول عليه قبل الدارسين العرب، وبعد تمكنهم من المناهج البحثية المتمكنة، أن يدرسوا هذا التراث وأن يكشفوا عن جوانبه المختلفة، أما الأحكام التي يمكن أن تصدر عنهم فمن اليسير نقدها والرد عليها. ولقد أشرنا في بداية     هذا البحث أن رسالة المستشرقين موجهة إلى الأوروبيين والغربيين أكثر مما هي موجهة إلى العرب المسلمين، وعليه فمن الجحود أن ننكر إيجابية تلك الدراسات الاستشراقية القيمة رغم ما تحويه من آراء قد نصفها بالتحيز أو ربما العدائية، ولقد عبر عن ذلك عبد الحليم النجار عندما قال في مقدمة كتاب بروكلمان Carl Brockelmann:" كان تعريب كتاب (تاريخ الأدب العربي) لكارل بروكلمان حلما راود كل قارئ بالعربية، حينما يبحث في علوم العرب وآدابهم، أو يحاول سبر جهود العلم العربي ومتابعة خطواته في تأسيس ثقافة العالم الجديد وتنمية حضارته".[xxxiii] وهي الرؤية التي تتناسب ومبدأ البحث والتطوير في حقول العلم كافة.
خاتمة:
لم يترك المستشرقون شاردة أو واردة في ثقافتنا وأدبنا وتراثنا عامة لم يتطرقوا إليها في أبحاثهم ودراساتهم، فلقد تمكنوا في ظروف تاريخية معينة أن يحصلوا على مادة الدراسة في شكل مخطوطات أو تواجد احتلال أو رحلة استكشاف أو مهمة تدريس في البلاد العربية مترامية الأطراف. وهكذا تمكنا من قراءة كثير من جوانب شخصيتنا من الآخر الأجنبي، وعانينا في ذلك بعض المعاناة بفعل الاختلاف في الرؤية والتحليل.
لكننا غنمنا منهم دراسات كانت منطلقا لنهضة أدبية كبيرة، قامت على سواعد الأدباء والنقاد العرب الذين صقلتهم تجارب الاحتكاك التاريخي بالأوروبيين منذ بداية القرن العشرين خاصة، تلك الدراسات التي انطلقت من حيث انتهت أبحاث أغلب المستشرقين الفرنسيين والألمان والإنجليز، الذين دفعهم الانتماء إلى أمة قائمة على احتلال الشعوب الصغيرة إلى الاهتمام بتراث أسال لعاب الباحثين منذ الحروب الصليبية أو قبلها.
وكان الرواد في تلك الدراسات هم الفرنسيون الذين نحصي منهم الكثير قديما وحديثا، وهم الذين أقاموا المعاهد والمدارس الخاصة باللغات الشرقية عموما، واللغة العربية بخاصة، بحكم ارتباطها بكتاب ديني شكل أمة كاملة متكاملة في شتى الاتجاهات العملية والمعرفية. وهكذا عكفوا على دراسة هذه اللغة وأدبها وشعوبها ودينها وتاريخها وكل ما يتعلق بها بشكل موسوعي تارة، وبشكل مختصر تارة أخرى.
ومن النتائج التي توصلنا إليها في هذا البحث الموجز بمكن ذكر ما يأتي:
-       لم تنفصل دراسة اللغة والأدب العربي يوما عن دراسة القرآن الكريم، سواء بوصفه وحيا إلهيا أو كتابا أدبيا لا يختلف عن بقية الكتب التراثية.
-       اتخذ كثير من المستشرقين من أدبية القرآن الكريم دليلا على سيطرة النموذج القرآني على النصوص الأدبية في عصور مختلفة، مع الانحراف أحيانا إلى استنتاج بشرية القرآن خصوصا من خلال ظاهرة السجع التي سبقت النص القرآني وهيمنت على جانب مهم من تلك الأدبية.
-       تركيز المستشرقين الذين تناولوا الحقبة الإسلامية بمراحلها الثلاث على الخلافات بين الفرق والأعراق وأثر ذلك على الأدب العربي ولغته، وبخاصة ما تعلق بدور العنصر غير العربي في نشأة الأنواع التعبيرية المختلفة وتطورها، وهي في نظرنا قراءة استشراقية فيها شيء من المبالغة، أو شيء من الإشارة غير البريئة إلى تفوق العنصر غير العربي.
-       إن مساهمة الفرنسيين في دراسة اللغة العربية وأدبها تعود إلى احتكاكهم التاريخي بالعرب، فحملة نابليون التاريخية واحدة من شواهده، وما تلاها من حملات استعمارية عمق ذلك، وكان من نتائج ذلك انتشار الدارسين الفرنسيين في أرض العرب شرقا وغربا تحت أغطية كثيرة، وتمكنوا من الحصول على نفائس الفكر العربي، وإذا كان جزي منه توجه إلى مساندة الاحتلال وخدمته، فإن جزءا آخر خدم الأدب العربي وكان قاعدة انطلاق للدراسات العربية المتصاعدة.
        وأخيرا، نعتقد إن الكلمة الفصل هي تلك التي يصنعها العرب عن أدبهم ولغتهم، انطلاقا من أبحاثهم وقناعاتهم وإعادة قراءة تراثهم. وكل ما سوى ذلك هو أداة مساعدة على الدراسة والفهم والتمحيص ليس إلا؛ ومهما قلنا عن سلبيات الدراسات الاستشراقية، فإننا نعتبرها النواة لكل دراسة جادة لتراثنا اللغوي والأدبي. يبقى فقط أن نتخلص من عقدة الارتباط بالآخر والتبعية له لنتمكن من بناء رؤية موضوعية لما نحن عليه، ثم نخطط لما نريد أن نكون عليه.




[i]  محمود حمدي زقزوق. الاستشراق والخلفية الفكرية للصراع الحضاري. 79. دار المعارف- مصر
[ii]    Maxime Rodinson . Mahomet . 126. Le seuil. Paris .1961      
[iii]    Gaston Wiet. Introduction à la litterature arabe.39. ed.G.P. Maisonneuve et Larose. 1966
[iv]   Ibid.40
[v]      سيد قطب. التصوير الفني في القرآن . 96 . دار الشروق -بيروت - القاهرة . ط7 . 1982
[vi]    Jacques Berque .Langages arabes du présent.210. Gallimard.1973    
[vii]   ريجس بلاشير . تاريخ الأدب العربي، ج2. 242. تر: إبراهبم الكبلاني. ديوان المطبوعات الجامعية- الجزائر .
[viii]    المرجع نفسه. 242 .
[ix]   رمضان حينوني. المستشرقون وبنية النص القرآني . دار اليازوري – عمان. ط1 2013
[x] ينظر: إدوارد سعيد. الاستشراق. 215. مؤسسة الأبحاث العربية- بيروت, ط5. 2001.
[xi]  Jacques Berque . L’islam au temps du monde.31. Sindbad- Paris. 1984.  
[xii]  Ibid. 44
[xiii]  Jacques Berque. Langages arabes du présent. 175.
[xiv]    رمضان حينوني. المستشرقون وبنية النص القرآني.202.
[xv]    بلاشير. تاريخ الأدب العربي. ج2. 229
[xvi]   Dominique Sourdel . L'Islam . 12. " Que sais - je " PUF  Paris . 13e edi . 1984     
[xvii]   Maxime Rodinson . Mahomet . 124. Le seuil. Paris .1961
[xviii]   Gaston Wiet . Introduction à la litterature arabe .38 .
[xix]   ولد عام 1929 في جنوب فرنسا، عمل عقب تخرجه في دمشق وبيروت بالمعهد الفرنسي للدراسات العربية. عين سنة 1961 مستشارا لفرنسا بمصر, تولى التدريس في الجامعات الفرنسية مثل جامعة فانسان، وجامعة السربون الجديدة ثم مدير معهد اللغات الهند والشرق وشمال إفريقيا وحضارتها في جامعة باريس الثالثة، وانتخب أستاذ كرسي الأدب العربي في الكوليج دي فرانس عام 1975، ثم عين مديرا للمكتبة الوطنية الفرنسية عام 1984, سخر ميكل جهوده العلمية الكثيرة للأدب العربي تأليفا وإشرافا على الطلاب العرب في الجامعات الفرنسية. ينظر: أحمد درويش. الاستشراق الفرنسي والدب العربي. الهيئة المصرية العامة للكتاب.1997. ص 16-17
[xx]   Andre Mique. La Litterature arabe . 9-10. que sais-je P.U.F- Paris. 2ed. 1984 
[xxi]    Ibid. 15
[xxii]    Ibid. 15
[xxiii]    Ibid. 62
[xxiv]    Ibid. 64
[xxv]    Ibid.70
[xxvi]    أحمد درويش . الاستشراق الفرنسي والأدب العربي، 41. الهيئة المصرية العامة للكتاب.1997.
[xxvii]   شارل بلاّ (1914 – 1992 م) هو مستشرق فرنسي،  مولود في الجزائر إبان الحقبة الاستعمارية، استقرت عائلته بالمغرب الأقصى سنة 1924، فبدأ بتعلم الأمازيغية، لكن سرعان ما تركها ليهتم باللغة العربية. عمل مدرسا بمراكش المغربية، ثم التحق بباريس وعين مدرسا في ليسيه لوي لوغران ، ثم أستاذا في مدرسة اللغات الشرقية ، ثم أستاذا في معهد الدراسات الإسلامية بباريس ثم مديرا للمعهد. تخصص في دراسة إنتاج الجاحظ ، فخسس له رسالتي دكتوراه ومجموع كتب، كما تناول الأدب العربي بالدراسة في مجموعة كتب أهمها: اللغة والأدب العربيان)1952 ، (مدخل إلى اللغة العربية الحديثة) 1974،  اللغة العربية الحية) 1984، وتاريخ اللغة والأدب العربي) 1997،
[xxviii]     Charles Pellat. Langue et litterature arabes .88 .edi, Armande Colin paris.1970
[xxix]    Ibid.18
[xxx]    Ibid. 18
[xxxi]   أسعد أبو خليل. سرقة أدبيّة لجبران خليل جبران؟ وفاءً لابن لنكك. جريدة الأخبار الإلكترونية، الرابط:    
[xxxii]    منذر معاليقي. الاستشراق في الميزان.66. المكتب الاسلامي. ط1. 1997.
[xxxiii]    محمود حمدي زقزوق. الاستشراق والخلفية الفكرية للصراع الحضاري. 69.

مراجع البحث:

-أحمد درويش. الاستشراق الفرنسي والأدب العربي. الهيئة المصرية العامة للكتاب.1997.
-إدوارد سعيد. الاستشراق. مؤسسة الأبحاث العربية- بيروت, ط5. 2001.
-رمضان حينوني. المستشرقون وبنية النص القرآني . دار اليازوري – عمان. ط1 2013
-ريجس بلاشير . تاريخ الأدب العربي، ج2. تر: إبراهبم الكيلاني. ديوان المطبوعات الجامعية- الجزائر.
-سيد قطب . التصوير الفني في القرآن. دار الشروق -بيروت - القاهرة . ط7 . 1982
-محمود حمدي زقزوق. الاستشراق والخلفية الفكرية للصراع الحضاري. دار المعارف- مصر.
-منذر معاليقي. الاستشراق في الميزان. المكتب الاسلامي. ط1. 1997.
-جريد الأخبار الإلكترونية: http://www.al-akhbar.com/node/192197

-Andre Mique. La Litterature arabe .que sais-je / P.U.F. 2ed. 1984
-Charles Pellat . Langue et litterature arabes.edi, Armande Colin paris.1970
-Dominique Sourdel . L'Islam . " Que sais - je " PUF  Paris . 13e edi . 1984     
-Gaston Wiet . Introduction à la litterature arabe. ed.G.P. Maisonneuve et Larose. 1966
-Jacques Berque . L’islam au temp du monde. Sindbad- Paris. 1984  
-Jacques Berque . Langages arabes du présent .gallimard.1973    
-Maxime Rodinson . Mahomet . Le seuil. Paris .1961      
 ملحوظة: هذا المقال منشور في مجلة