السبت، 28 يونيو 2014

الثورة الجزائرية في الشعر العربي الحديث




الثورة الجزائرية في الشعر العربي الحديث


د. رمضان حينوني
المركز الجامعي لتامنغست/ الجزائر
                                                                           
تمهيد:
يندفع الشعر بوصفه تعبيرا وجدانيا انفعاليا مع الأحداث المختلفة التي يصنعها الإنسان أو التي تفرض عليه، فيعبر عنها ويجسدها، ويعكس ما فيها من سلبيات وإيجابيات؛ فهو الحاضر في ميادين النزال، كما في حفلات الأعراس، وفي مجالس اللهو والترف كما في مجالس الوعظ والإرشاد، وفي الفخر بالقيم النبيلة كما في ذم الخصال القبيحة، وفي رحاب الملوك والسلاطين كما في أكواخ الفقراء والمعدمين، وما شئت من الميادين والجبهات.
والشعر بما يحمله من سحر في البيان وتناسق في النظم، وسعة في الموضوعات، وسيلة تعبيرية مهمة لتخليد الآثار وتصوير المواقف، ما يجعله مؤثرا في النفوس، ومترددا على الألسنة  جيلا بعد جيل، وحقبة بعد أخرى. لهذا ارتبط بحياة الشعوب وتاريخها ومآثرها، حتى عده  العرب ديوانهم الذي يفخرون به، وزادهم الذي يقابلون بها ما لغيرهم  من فلسفات ومظاهر حضارة.
وإذا كان للشعر هذه الخطورة، فإن اقترانه بالأحداث العظمي يزيده قوة ومكانة في آن معا، خاصة إذا ما وجد من الشعراء من يجمع قوة البيان بقوة التفاعل مع الحدث؛ لأن أخطر ما في الشعر كونه كلاما خالدا يتردد على الألسنة كما تتردد التحية بين الناس، وكونه محط أنظار الجميع بغض النظر عن مستوياتهم ووظائفهم. وما ينقله تاريخ الأدب عن الشعر والشعراء قديما وحديثا يذهل القارئ بكل ما يحمله من متناقضات، فرب شاعر رفعته قصيدته إلى مصاف الأخيار والأبطال، ورب شاعر نزلت به القصيدة إلى قاع  الضياع، وما ذاك إلا لأن الشاعر أبدع فيها فنا وجسد فيها موضوعا له من الأهمية ما ليست لغيره.

ثنائية الشعر والثورة:
وعندما نقرن الشعر بالثورة الجزائرية فنحن أمام متعتين: متعة الفن الشعري بخياله وتصويره وموسيقاه، ومتعة الموضوع بزخمه وهوله وروعته التي تركت آثارها في نفوس الجزائريين، ونفوس غيرهم من العرب والمسلمين والأجانب أيضا. ونجد أنفسنا مجبرين على استرجاع ماضينا لنقرنه بحاضرنا ونتأمل سنة الله في خلقه وكونه، فكما كان أبو تمام والمتنبي يقفان على معارك الملوك المسلمين في زمانهم وينقلونها تصويرا ومعاني وعواطف حتى خلدوها في التاريخ، فكذلك فعل مفدي زكريا وغيره مع الثورة الجزائرية. وإذا كانت معارك الماضي أياما وليالي، فإن الثورة سنوات طويلة مُرة لم ينته كابوسها إلا بعد تضحيات جسام. فلا عجب إذن أن يخصص شاعر مثل مفدي زكريا أغلب شعره لتخليد أمجاد الثورة، والفخر برجالها، حتى ظننا أن ليس لمفدي اهتمام في الدنيا سوى الجزائر.
وعلى الرغم مما تفرضه الثورات العظيمة على الشاعر من حماسة في نقل مجرياتها، فقد تعتري الشاعر أحيانا صدمة العظمة تجعله، حائرا فيتوقف عن الاندفاع والتدفق، ويمكث عن بعد يترقب ويلاحظ، دون أن يقوى على تحريك لسانه المبدع، بل دون أن تسعفه الكلمات للتعبير عما يرى ويسمع. ذلك هو حال الشعراء مع الثورة الجزائرية العظيمة التي أذهلت العالم ببطولات أبنائها، ورسمت للجزائر لوحة عز خالدة لا تؤثر عليها العوامل والمتغيرات.
لكن صمت بعض الشعراء أمام عظمة ثورتهم لم يكن من قبيل التخاذل أو الخيانة، بل العكس هو الصحيح؛ إنه صمت المعجب والمعظم للحدث، فكأن ما يحدث على أرض المعارك لا يحتاج أصلا إلى من يعبر عنه نتيجة لكونه جللا؛ مثلما حدث مع الشعراء تجاه القرآن الكريم أثناء نزوله، ففي الوقت الذي ارتفعت فيه أصوات شعراء قريش تستهزئ بالرسول وقرآنه في عنجهية وتجبر وتكبر، نجد شعراء آخرين ممن صفت نفوسهم من الحقد والتحدي أخصرهم القرآن بما أتى به من بديع التصوير وجمال البيان وقوة الحجة، فكأنما يقولون لقرائهم ورواتهم: ليس بعد هذا الكلام كلام؛ ولا نريد بمثال القرآن هذا المطابقة بقدر ما نريد إثبات أن قوة الحدث موجبة أحيانا للصمت عن التعبير عنه، أو بيان أولوية السكوت على الكلام القاصر عن بيان حقيقة ما يجري، فكأن الكلمات المترجمة له أصغر من أن تتحمل ثقل المعنى، كما عبر عن ذلك سليمان العيسى (1921 - ) في قوله:
روعة الجرح فوق ما يحمل اللفـ         ظ ويقوى عليه إعصار شاعر
ما عساني أقول والنــــــــــــار لم تلـ         فح جبينـــي هناك والثأر دائر[1]
على أن صمت الشعراء الذي نقصده هنا ينقسم قسمين: قسم تجسد فيه الصمت الحقيقي عن إنتاج النص الشعري، لظرف أو لآخر، وقسم عبر فيه الشعراء عن الصمت وعجز القوافي عن احتواء معاني على سبيل تعظيم الثورة دون أن يصمت الشاعر حقيقة.
فمن النوع الأول نجد الشاعر القدير المرحوم محمد العيد آل خليفة الذي " لم ينتظر ديوانه الضخم غير قصيدتين[2] يعود تاريخهما إلى عهد الثورة، وهو الشاعر الذي كان ينفخ الثورة في الثلاثينيات بقصيدة في كل مطلع شهر"، كما سكت أحمد سحنون الذي كان يتلمس وهج الثورة بأطراف أصابعه، وسكت محمد الأخضر السائحي فلم يطالعنا بأول دواوينه إلا بعد الاستقلال، والأمر ينطبق على آخرين مثل محمد الجريدي والهادي السنوسي وعمر شكيري  وغيرهم.[3]
فلا يُعتقدن إذن أن سكوت هؤلاء عن الشعر أو عن كثيره راجع إلى جبن أو خوف من المحتل، فقد ضحى كثير منهم بحياته فداء لوطنه، مثل الأمين العمودي، وعبد الكريم العقون، والربيع بوشامة، وآخرين ذاقوا مرارة السجون الاستعمارية طويلا، كأحمد سحنون، إنما سكوتهم من قبيل الاعتراف بأن الدور لحملة راية السلاح، وعليهم أن يؤدوا الدور كما يجب.
أما النوع الثاني فيمثله عدد من الشعراء ممن ارتبطت أسماؤهم بالثورة الجزائرية، مثل الشاعر مفدي زكريا (1908 – 1977) الذي عبر عن تراجع  الكلام، وضيق الشعر عن التعبير عن عظمة ما يحدث في الجزائر. غير أنه بقدر ما كان يستخف بالكلمة في مقابل الكفاح المسلح، كان يبدع لنا القصائد التي لا تقل روعتها عما يحققه المجاهدون في ساحات الوغى، فمن قصيدته " وتعطلت لغة الكلام" نقرأ:
نطق الرصاص فما  يباح  كــلام  ***   وجرى القصاص فما يتاح ملام
السيف أصدق لهـجة من أحــرف  ***   كتبت، فكان بيانــــــها الإبهام
إن الصحائف  للصـفائح أمرها  ***   والحبر حرب والكــلام كـــــــلام
عز المكاتب في  الحياة  كتــــــائب  ***  زحفت  كأن جنــــــــــودها الأعلام
خير المحافل في الزمان حـــجافل  ***  رفعت على وحداتـــــــــها الأعلام[4]
أما أبو القاسم خمار (1931 - ) فيحذو حذو مفدي في هذا المجال، حين يعبر عن ملله الكلام حتى وإن كان غناء أو تغريدا، ويدعو إلى الصمت الذي يفسح المجال للزحف ليؤدي مهامه. يقول في قصيدة الزحف الأصم:
أنا لا أغرد للنضـــــــــــــــــا  ***  ل ولا أغني  للرجــــولـــــة
ملت مسامعنــــا وعـــــــــــا  ***  ف الشعر ترديد البطولة
لمن الهتاف ؟ وأمـــــــتي  ***  لما تزل بيـــــــــــــن الحمم
                   الصمت أبلغ في الوغى  ***  والنصر للـــــزحف الأصـم       [5]
وإذا تساءلنا عن سر هذا النزوع إلى الصمت بنوعيه لا نجد أفضل مما علله به الدكتور صالح خرفي في قوله:"وربما استمد بعض الشعراء هذا الموقف الصامد الصامت من الحقيقة التاريخية التي صدعت بها الثورة، حين قامت حدا فاصلا بين عهد اللعب وعهد الجد، وطوت في إصرار سياسة الأخذ والرد، حتى طغت على الثورة في سنيها الأولى رفض عنيد لكل تلويح بالتفاوض."[6]

الشعر العربي الحديث والثورة الجزائرية:
هزت الثورة الجزائرية وجدان الشاعر العربي منذ تفجيرها في نوفمبر1954، واستمر ذلك إلى زمن ما بعد الاستقلال، ولا نبالغ إذا قلنا إن الشعر في كل قطر عربي، من بغداد إلى مراكش قد حفل بتناول الثورة الجزائرية وكفاح هذا الشعب الكبير، وبكل الأشكال الشعرية المتاحة. وقد عبر عن ذلك شاعر الثورة الجزائرية نفسه حين اعترف بمآزرة بلاد العرب قاطبة مع كفاح هذا الشعب الأبي، فقال في إحدى قصائده:
نسبٌ بدنيا العُرب.. زكَّى غرسَه ألمٌ      فأورق دوحُــــــــJJJــــه وتفرَّعَـــــا
سببٌ، بأوتار القلــــــــــــوب.. عروقُهُ     إن رنّ هذا.. رنّ ذاكَ ورجَّــــــــــعَا!
إمّا تنهَّد بالجــــــــــــــــــــــــــــــزائر مُوجَع      آسى «الشآمُ» جراحَه، وتوجَّـــعَا!
واهتزَّ فــــــــي أرض " الكِنانة" خافقٌ    وأَقضَّ في أرض)العراق) المضجعَا!
وارتجَّ فـــــــــي الخضــراء شعبٌ ماجدٌ      لم تُثنِه أرزاؤه أن يَفــــــــــــــــــــــــــزعَا
وهوتْ «مُراكشُ» حـــــــــــولَه وتألمّتْ     «لبنانُ»، واستعدى جديسَ وتُبَّعـــَا
تلك العروبةُ.. إن تَثُــــــــــرْ أعصابُها     وهن الزمانُ حيالَها، وتضعضـــعَا![7]
وبصرف النظر عن قيمة القصائد التي قيلت في الثورة الجزائرية من حيث الجودة الشعرية، فإن الكم الهائل من الأشعار الموجهة إليها دليل كاف على أن العرب تفاعلوا معها تفاعلا ينم عن مؤازرة وإعجاب وتمن بالنجاح، لكونها تمثل فخرا لكل العرب والمسلمين. ولقد أكد عثمان سعدي الذي كان سفيرا بالعراق وسوريا أنه تمكن من " جمع 254 قصيدة في الثورة الجزائرية قالها 107 شعراء من العراق فقط ... و198 قصيدة قالها 62 شاعرا سوريا في الثورة الجزائرية."[8] فكيف سيكون الحال إذا غطى الإحصاء شعراء باقي الأقطار العربية والإسلامية التي يحصي كل منها عددا كبيرا من الشعراء في مستوياتهم المختلفة عمرا وإبداعا؟
هذه الحقيقة يؤكدها عبد الله ركيبي من جهته، فيرى أن" ما من شاعر عربي – رغم كثرة الشعراء على الساحة العربية – إلا وذكر الأوراس في شعره سواء قليلا أو كثيرا، وربما كان ذكر الأوراس جواز مرور القصيدة إلى النشر حتى وإن لم تكن في مستوى يؤهلها لذلك."[9]
وإذا بحثنا عن دوافع اهتمام الشعراء العرب بها وقفنا على ما يأتي:
-        كونها ثورة عظيمة في زمنها ومكانها، بالنظر إلى حجم البطولات والتضحيات التي قدمها الشعب الجزائري في حرب غير متكافئة قد حظيت بالإعجاب والتقدير والتعاطف، ليس فقط لدى العرب أو المسلمين بل عند غيرهم من ذوى التوجه الإنساني العادل.
-        كونها جاءت بعد ثورات تحرر متواصلة في البلاد العربية، وحروب طاحنة ضد قوى الاحتلال الغربي والصهيوني. ولعل مأساة فلسطين وعجز الأمة عن التخلص من هذا الكيان الغاصب المدعوم من القوى العظمى ومنها فرنسا كانا حاضرين في وجدان كل عربي، ، ما جعل تفجير الثورة الجزائرية أملا في استرجاع الأمة لبعض مجدها الضائع.
-        تنامي الحس القومي في هذه الفترة، والشعور بوحدة المصير، الأمر الذي دفع الإنسان العربي إلى الرغبة في رؤية البلاد العربية تتحرر، استعداد لوحدة قومية مأمولة تكون خلاصا من التشرذم والتخلف والتبعية.
-        إيمان الشعراء بأن للكلمة أهميتها في تحديد مصائر الشعوب، وفي دفع العمل النضالي والمسلح إلى تغيير الأوضاع السائدة.
الجوانب المتناولة في الثورة الجزائرية:
 ولقد تشعبت موضوعات الثورة عند الشعراء العرب لتشمل الثورة في ذاتها كفعل مضاد للاحتلال، والإنسان الذي يصنعها والمكان الذي يشهد على عظمتها، وارتباطها بمحيطها العربي والإقليمي:

أ‌-     الثورة بوصفها وقائع ومعارك:
يعرف الشاعر إذن أن الكلمات تقصر عن نقل الوقائع في كمال جلائها، ولكنه مع ذلك يأبى إلا أن يقول كلمته، ويحاول قدر جهده أن ينقل للقارئ صورة تهزه وتؤثر في وجدانه؛ ولقد وفرت الثورة الجزائرية للشعراء جوا ملحميا فريدا ينظمون فيها الأشعار، ويتبارون في نقل الأحاسيس قبل نقل الوقائع؛ لأنهم بعيدون عن أرض المعارك وإن كانوا يتمنون المشاركة فيها.
يقول الشاعر السوري سليمان العيسى في أحد حواراته:" عندما قامت الثورة الجزائرية ثورة التحرير الكبرى كنا نتابعها يوما بيوم ومعركة بمعركة ونعد نفسنا من الثوار.. وان لم نشترك في الثورة أو نكون في جبال الاوراس. كنا نحلم أن نكون في الجبال مع المقاتلين لكن لم يتح لنا أن نحمل السلاح فوجدنا أننا نستطيع أن نساهم في هذه الثورة بأن ننقل لعنة المنفى إلى أصلها.. الى اللغة الأم, ففكرنا قليلا ووجدنا أن أحسن خدمة يمكن تقديمها لهذه أن نطلع الإخوة العرب على ما يقوله إخواننا في الجزائر دفاعا عن الأرض والقضية والحرية."[10]
في هذا الإطار تأتي قصيدة أحمد حجازي (1935 -)(الموت في وهران) لتصف الجموع المقدمة في إصرار على انتزاع كرامتها دون خوف أو تردد:
من أبدل المعنى، فصار المنى
أن يلتقي صريعهم بالصريع؟
ومن أضاء للعيون الردى
وأطلع الفجر قبيل العزيع؟
يرونه ودونه مقتل،
يرونه، ولا يرون الرجوع
أريد أن أعثر فيهم على
مستدبر النار، فلا أستطيع
أكاد أن أهتف في جمعهم
عودوا ! وأخشى واحدا أن يطيع[11]
إن التفاعل الوجداني مع الحدث جعل الشاعر يندمج في جو الثورة والإصرار على تحقيق أهدافها، فيجد في جموع الثوار ما يريده هو في قرارة نفسه فيطمئن إلى أن السهم انطلق ولن يعود، وأن العاصفة بدأت ولن تهدأ حتى تحقق دورتها، وأن الموت عند هؤلاء اصبح مألوفا وكأنه وجه للطلوع.
ويرفع حسن عبد الله القرشي (1934 -) آيات الإعجاب إلى الثورة التي صنعها من لا يخافون العدو ولا يهابون آلته الرهيبة، فهانت عندهم المصائب والأهوال طالما أنهم يؤمنون برسالتهم وبنصر الله لهم، فيقول:
كم رحت أهفو نحوهم في حلك الكفـــــــــــاح
لا يألمون للضنى، للــــــــــــــــــــــهول، للجراح
ويغزلون في الدجى أجنــــــــــــــــــــحة الصباح
"ذؤابة الأوراس" لا يرهـــــــــــــــــــــــــــــبهم سلاح
شراعهم يهــــــــــــــــــــــــابه " القرصان" والرياح
ثاروا فيا أرض اشرقي بالمجد، يــــــــا بطاح
وكللي هاماتهم بالغــــــــــــــــــــــــــــــــــــار يا أقاح[12]
ب‌- الشهيد والمجاهد بوصفهما بطلين:
اعتلى الشهيد منصة التتويج بالشهادة والبطولة في شعر من يؤمنون بأن الحرية لا تعطى ولكن تؤخذ غلابا، فهو ليس ميتا عاديا تقام له المآتم وجلسات البكاء والعزاء، بل هو مسيح يتعالى إلى السماء كما صوره مفدي زكريا في قصيدته الشهيرة (الذبيح الصاعد).
يقول الشاعر السوري سليمان العيسى في تعظيم البطل الشهيد (زيغود يوسف):
''صمت على الوادي يروّع الوادي
وسحابة من لوعة وحداد
أرسى على الهضبات ريش نسورها
وتمزقت من بعد طول جلاد
هدأ الوميض.. فلا أنين شظية
يُصمي، ولا تكبيرة استشهاد''
إلى أن يقول:
''يا سفح يوسف يا خضيب كمينه
يا روعة الأجداد في الأحفاد
يا إرث موسى في النسور وعقبة
والبحر حولك زورق ابن زياّد
يا شمخة التاريخ في أوراسنا
يا نبع ملحمة بثغر الحادي
أتموت؟ تاريخ الرجولة فرية
كبرى إذن، ووضاءة الأمجاد
أتموت كل حنية بجزائري
ميلاد شعب رائع ميلادي'[13]
أما المجاهد والمناضل فلا يجدان من الشعراء إلا التبجيل والتقدير، خصوصا إذا ذاقا مرارة السجن؛ فهذه الشاعرة العراقية نازك الملائكة (1923 – 2007) تصور مكانة البطلة الجزائرية(جميلة بوحيرد) في قلوب العرب حين علموا بما لاقته هذه البطلة في سجون الاحتلال، وبقدر ما تعبر عن العجز عن تحريرها وتخليصها من العذاب والإهانة، تصور أشكال التنكيل الذي تعرضت إليه دون أن تتنازل عن مبدئها وهي المرأة التي كان يعتقد ضعفها وخوفها وإذا بها لبؤة شرسة في وجه الذئاب والضباع.
ويلفت انتباه الشاعرة طريقة المحتل في تعذيب هذه البطلة، وتحاول أن تواسي البطلة بآثار ذلك التعذيب وذلك الصمود المضاد في إذكاء روح التضامن مع (جميلة) ومع كل جزائري يجابه القوة العاتية، فتقول في قصيدة( نحن وجميلة):
هم حملوها جراح السكاكين في سوء نية
ونحن نحملها-في ابتسام وحسن نية-
جراح المعاني الغلاظ الجهوله
فيا لجراح تعمق فيها نيوب فرنسا
وجرح القرابة أعمق من كل جرح وأقسى
فواخجلتا من جراح جميله![14]
وحظي اسم (جميلة) بكثير من الفخر في الشعر العربي، فإذا كانت بطلته الأولى هي (بوحيرد) فإنه ارتبط أيضا بمجاهدات أخريات منهن (جميلة بوباشا) و(جميلة بوعزة) وغيرهما، كما أن جنسهما والتحدي الذي يعنيه نظال امرأة في تلك الظروف القاسية جعل الشعراء يخصصون كثيرا من القصائد للبطولة النسوية في حرب التحرير الجزائرية.
غير أن جميلة بوحيرد خطفت الأضواء أكثر من زميلاتها لسبب وجيه هو حادثة التعذيب البشع الذي تعرضت إليه، وبخاصة في المناطق الحساسة من جسمها الأنثوي، ما دفع الشعراء العرب إلى تهويل هذا التعذيب في مقابل الفخر بالصمود الذي أبدته امرأة كان يعتقد أنها تضعف أمام المحتل، وإذا بها أفضل من كثير من الرجال قوة وشجاعة وصمودا. فلا غرو إذا أن تتحول إلى رمز أو أسطورة لا يستطيع كثير من الشعراء ذكر الجزائر دون ذكرها والتغني ببطولاتها.
فالقرشي يرسم لجميلة صورة تليق بها مناضلة أبية فيقول:
" جميلة " وأنت يا أنشودة الإبـاءْ
يا نغمة تشع بالطهر وبالصفــــاءْ
شهيدة في وطني تضحك للفداءْ[15]
وتستوحي الشاعرة السورية طلعت الرفاعي (1922 -) مثال جميلة لتسقطه على نفسها في تعبير واضح عن مناصرة المرأة المجاهدة، فتذهب في تفاعلها مع أحداث الثورة الجزائرية إلى أن تتصور نفسها بطلة أسيرة في الجزائر، لتنال الشرف والرفعة اللذين حظيت بهما أختها الجزائرية، فتقول:
أنا هاهنا من غرفة في السجن مظلمة رهيبة
هذه السطور أخطها في صمت وحدتي الكئيبة
وتطرح ما يتبادر إلى أذهان الجبناء والمتقاعسين عن أداء واجبهم تجاه أوطانهم، مفضلين العيش في هناء وغفلة، فتقول:
ما ضرني لو لم أثر، وبقيت في بيتي رهينة؟
أغفو على الريش الوثير، وأحتسي الكأس الرقيقة ؟
لكن متع الحياة مع المحتل مرارة، والمرأة والرجل في هذا الشعور سواء، لذلك تجيب المتسائل عن أسباب تضحيتها بقولها:
لا يا رفيق الدرب، لم أخلق لكي أحيا ليومي
درس الفدا أخذته عن والدي وخالي وأمي
ولقائل ما شأنها، ولكل هذاك العذاب؟
بي مثل ما بك من هوى الأوطان من حب الكرامة
إما حياة عز، أو موت به معنى السلامة.
إن نموذج جميلة في قصيدة الرفاعي دليل على أن جميلة أصبحت المثال الذي يحتذى به في ظروف تطلبت من كل شرفاء الأمة أن يكونوا قلبا واحدا مع الحق مهما استوجب من تضحيات، فنعومة المرأة ولطافتها ورهافة حسها كلها أمور قابلة للتعديل إذا تعلق الأمر بتبني قضية التحرر من قيود المستعمر الغاشم.
ج- المكان بوصفه شاهدا على الثورة.
حين كتب أحمد حجازي قصيدته (أوراس)، قدم لها بقوله:" إن أوراس في نظري ليست قصيدة قديمة، لقد منحها موضوعها فرصة الميلاد كل يوم، وأن كل ما هو بطولي في القصيدة يأتيها من الثورة، وكل ما هو فج فيها مرده إلى جوانب في نفسي لم تمتد إليها نار الثورة بعد."[16]
وتختصر الأوراس من حيث كونها منطلق الثورة الجزائرية في شعر حجازي بلدا كاملا يشتعل ثورة، بل مغربا كاملا يعيش على وقع زلزال عنيف يبغي تطهير الأرض من دنس المحتل:
مدن المغرب
ترتج على قمم الأوراس
زلزال في مدن المغرب
لم يهدأ منذ سنين مائه
لم يترك في جفن أملا في نعاس
يأتي المولود على صوت الزلزالْ
ويموت رجال
فيودعهم صوت الزلزال.[17]
ويحمل المكان في القصيدة ثقل الحدث الذي يقع فيه، بل يتبادلان الاعتزاز والفخر بجسامة التضحيات، غير أن المكان يلبس لبوس الرمز فيغدو لفظه ذا حمولة من المعاني  الثرية والمتعلقة بالقيم والإنسان والزمان معا، فيحدث ذلك الانصهار الدلالي الذي يلخص العظمة في أوضح صورها.
ولا يتردد الشاعر سليمان العيسى في أن يجعل من الأوراس موطنا وجامع أشلاء، بل ونسبا وأصلا، لكونها أعادت له وللعربي كثيرا من الكرامة المهدورة، والعزة المفقودة ، فيقول:
حملت أجنحة الأطفال ملء يـــــدي     وجئت أبحث يا أوراس عن جسدي
تقاسمتني الرياح السود فانــــتزعي     شرارتي وهبيني جمــــــــــــــــــــرة لغدي
جزائر الدم، ردي لي صدى نســـبي     وعصّبي جبهــتي بالأمس لا تـزد[18]
والشيء نفسه يقال عن وهران وقسنطينة اللتين شهدتا أحداثا جساما، ففي قصيدته( الطريق إلى قسنطينة) يعبر الشاعر العراقي سعدي يوسف (1934 - ) عن استعداده لبيع مكتبته ليشتري بندقية وليكون جنديا بهذه المدينة، فيقول:
أنا لستُ أملك بندقيه
لكنهم لو يسمحون هنا لأسرعنا إليك
ولبعتُ أوراقى ومكتبتى وجئتُ ببندقيه
ولكنتُ جندياً لديك
أمضى أُقاتلُ فى المدينه
من أجلِ أطفالِ المدينه
ولنسمة من برشلونه
ولوجهكِ العربيِّ، يا ضوءَ الشمال...[19]
أما وهران فقد ألهمت بطولاتها الشاعر العراقي بدر شاكر السياب(1926 – 1964)، الذي كثيرا ما أشاد بالثورة على الظلم، وأشاد بالحرية والانعتاق، وهاهو يهتز لما يحدث في وهران من بعث للحياة بعد الموت والسكينة للمحتل ، مستعينا لها برمز سيزيف الذي ثار على عقوبته ، وألقى عنه العبء، فيقول:
 هذا مخاض الأرض لا تيأسي
بشراك يا أجداث حان النشور !
بشراك في (وهران) أصداء صور
سيزيف ألقى عنه عبء الدهور
واستقبل الشمس على (الأطلس)! [20]
وإذا كانت وهران الجزائر قد نفضت عنها غبار العجز والاستسلام، وقامت لصناعة مجدها ومستقبلها، فإن وهران العراق ما يزال غارقا في مستنقع الحسابات الأجنبية والمصالح الضيقة، لهذا يختم السياب قصيدته (رسالة من القبر) بحرقة ولوعة تزيدهما أوضاعه الصحية مرارة، فيقول:
أه لوهران التي لا تثور!
ولا يقلل ذلك بالطبع من أهمية المدن الجزائرية الأخرى التي كان لكل منها ملحمته وبطولاته، بحسب الظروف الطبيعية والموقع الجغرافي، وما مثال مدن سطيف وقالمة وخراطة عنا ببعيد حيث شهدت واحدة من أبشع مجازر الاستعمار الفرنسي في حق الشعب الأعزل. وما لم يلتقطه الشعر الفصيح في هذا المجال عبر عنه الشعر الشعبي بغزارة وروعة.

خـــــاتمة:
      ومهما يكن من أمر، فإن عظمة الثورة الجزائرية سواء عبر عنها الشعراء بالصمت أو  بالكلام، محرك من محركات الإبداع عندهم، ومصدر مهم من مصادر الإلهام؛ وعلى الرغم من كل ما قلنا فإن الشعر الذي تناول التورة الجزائرية في الجزائر كما في العالم العربي كثير لا تحصى قصائده. فقد تعددت أفكاره من تمجيد للشهداء، ورفض لأساليب المحتل الغاصب، وحث للشعب الثائر على الصمود والمواجهة، وذم لجرائم الاستعمار ضد الإنسانية وغيرها. وبقدر ما تشرفت ثورتنا المجيدة بجهود الشعراء، فقد تشرفوا هم كذلك بها، وهذه هي النتيجة الطبيعية لتلاحم الشعر مع الأحداث الجليلة.
     وما أكد أصالة وصدق العلاقة بين الشعراء العرب والثورة الجزائرية سلسلة القصائد التي واكبت حركة البناء والتعمير التي بدأتها الجزائر بعد استقلالها، والتنويه بالدور الريادي لهذا البلد الكبير في مناصرة الشعوب المحتلة خاصة الشعب الفلسطيني الجريح، ولقد كانت المناسبات الوطنية في الجزائر فرصة للتعبير عن ذلك كله، سواء حضرها هؤلاء الشعراء أم غابوا عنها.



إحالات:



[1]      ديوان الجزائر(1954-1984)، 57، دار أطفالنا للنشر والتوزيع – دويرة/ الجزائر، ط1، 2010.
[2]   والقصيدتان هما( مناجاة أسير وأبي بشير) و( أبا المنقش)     
صالح خرفي، الشعر الجزائري الحديث.224 . المؤسسة الوطنية للكتاب –الجزائر.1984.  [3]   
[4]     اللهب المقدس ، 41، المؤسسة الوطنية للفنون المطبعية – الرغاية / الجزائر ، 2007 .
      نازك الملائكة، الديوان ، المجلد الثاني ، 548، دار أطفالنا للنشر والتوزيع- دويرة /الجزائر.[5]
     صالح خرفي،  م. السابق ، 226 [6]
[7]     اللهب المقدس ، م. سابق، 53،
 [8]   انظر تعليق عثمان سعدي على محاضرة سعدون حمادي (الأدب والوعي القومي: آراء فيما يجب أن يكون)، وردت في كتاب" دور الأدب في الوعي القومي العربي"،51، مركز دراسات الوحدة العربية- بيروت، ط3، فبراير 1984 .  
        الأوراس في الشعر العربي ، 13، دار الكتاب اللبناني- بيروت ، (دت)[9]
[10]     سليمان العيسى ، من حوار أجرته معه  فتيحة بوروينة، جريدة الرياض اليومية، عدد 11869، سنة 1421هـ
[11]    أحمد حجازي، الديوان ، 377، دار العودة – بيروت، 1973
        الديوان، المجلد الثاني ، 201، دار العودة – بيروت، ط2، 1979[12]
     ديوان الجزائر(1954-1984)، م. السابق، 157،[13]
[14]    نازك الملائكة ، الديوان،505 ، دار العودة – بيروت ، ط2 ، 1979.
       الديوان ، المجلد الثاني ، ص 204.[15]
[16]    م. نفسه، 393
[17]    نفسه، 397
      انظر: الأوراس في الشعر العربي، م. سابق، 29.[18]
[19]   أيام الحلم والثورة ( قراءة في كتاب: الثورة الجزائرية في الشعر العراقي)، صحيفة العرب الأسبوعي،بتاريخ: 6-12-2008 ص24
[20]    بدر شاكر السياب،  الديوان ج1، 392 - 393، دار العودة-بيروت، 1971،

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق