السبت، 28 يونيو 2014

معضلة الوجهين





معضلة  الوجهين
د. رمضان حينوني 
 



أي شعور ينتاب المرء وهو يتأمل واقع العالم العربي والإسلامي اليوم، حينما يقرأ قوله تعالى:[ يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون، كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون] (الصف 2-3)، وقول رسوله الكريم: [ تَجِدُ مِنْ شَرِّ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ اللَّهِ ذَا الْوَجْهَيْنِ الَّذِي يَأْتِي هَؤُلَاءِ بِوَجْهٍ وَهَؤُلَاءِ بِوَجْهٍ]؟
يتفوق كثير من الناس في الحديث عما يجب وما لا يجب من أمور الحياة، ولو شئت منهم محاضرات في هذا الباب لهان أمرها عندهم، فهم أساتذة النظريات وأرباب الاستشهادات من القرآن الكريم والحديث الشريف وما شئت من كلام الأولين والآخرين.. لكنهم، وبعد أن يمسحوا عنهم عرق جهد الكلام، وبعد أن يبردوا مهجهم بما لذ وطاب من المأكول والمشروب، يتصرفون كأي إنسان عادي يرى أنه يحيا لذاته ومصالحه، ولا يهمه ما يحدث خارج (خيمته)، وكأن شعاره يقول:(كلام الليل يمحوه النهار)، أو( اعملوا بما أقول لا ما أعمل)، ناسيا أو متجاهلا أن صورته الكاريكاتيرية تلك هي السبب في كفر البسطاء بالقيم، وجحودهم بالمبادئ التي يسمعون عنها، لأنهم لا يجدون غير نقائضها في سلوكات الناس وتصرفاتهم.

على أن الناس في هذا الأمر صنفان: صنف صادق النية ، يعقد في نفسه العزم على أن يبذل الجهد في توجيه الآخرين إلى الخير، ويحاول أن يكون القدوة لغيره، ولكنه يشعر أن الأبواب في وجهه موصدة، وأن الناس لا يستجيبون إلا لما يعود عليهم بالدينار والدرهم والسمعة الزائفة، فيتسرب اليأس والقنوط إلى نفسه، ينتهي به إلى ترك ما باشره ويطمئن إلى أجر المحاولة، وصنف منافق ماكر يسعى إلى تلميع صورته الصدئة في عيون المغفلين والسذج، معتمدا خطابا من النوع الذي يبكي ويضحك في الآن نفسه، فيحول سامعه إلى حائر أو شبه معتوه، لما فيه من الكذب البين الذي لا يصدق، والتصنع الواضح الذي لا يخفى، والبعد عن المصداقية الذي لا يشرف، وتكاد هذه تطل برأسها جميعا من جوانب شدقيه..
كلا الصنفين سلبي، وإن تفاوتت السلبية بينهما، فعيب الصنف الأول أنه يكرس حتمية الفشل في كل جهد يسعى إلى إصلاح أمور الناس التي تزداد تعقيدا بفعل مستحدثات المدنية، وعيب الصنف الثاني أنه يكرس فكرة استحالة التغيير والتقويم لأنهما بأيدي من لا يؤمن بهما ولا كفاءة له لتحقيقهما. وخير منهما من يطهر نفسه من شوائب الرياء والأنانية وينبري لفعل الخير والإصلاح دون الالتفات إلى من امتهنوا السباحة ضد التيار، أو الصيد في الماء العكر، أو الطعن في الظهر..
من مآزق الإنسان في عصرنا إظهاره وجهين مختلفين، واعتماده خطابين متباينين ، بل وانشطاره في تفكيره وتعامله مع الناس شطرين لا يمت أحدهما إلى الآخر، فيدخل متاهات الضياع، ويغوص في مستنقع التخلف، ويسيء من حيث يدري أو لا يدري إلى عقله ودينه وعقيدته التي تريد هداية البشرية إلى أسباب السعادة ومراتب السمو ومنازل التقدم.

رثاء النكسة في الشعر العربي الحديث



رثاء النكسة في الشعر العربي الحديث
 د. رمضان حينوني
المركز الجامعي لتامنغست

مقدمة:
أدرك كثير من شعراء  العصر الحديث أن التجديد في الشعر ضرورة ملحة أكثر منه تقليد لهذا التيار أو ذاك، فالبحث الدؤوب عن النموذج الشعري المؤثر ظل هاجسهم الأكبر لإيمانهم بالرسالة التي يؤدونها، ولرغبتهم في ضخ الدماء الجديدة في شرايين الشعر العتيقة.
ومن الزوايا التي مسها التجديد، ودخلها الابتكار نجد الغرض الشعري الذي نظر إليه أحايين كثيرة على أنه مظهر من مظاهر التقليد وتكرار القديم، فنودي إلى هجره كعلامة على قبول الانفتاح على الأفكار الجديدة في قضايا الشعر ونقده. غير أن الغرض الشعري لا ذنب له في تقليد الشعر أو تجديده؛ لأن طريقة توظيفه وقدرة الشاعر على التحكم في اتجاهه هما ما يعطي الشعر تميزه. وإذا أخذنا الرثاء مثلا وجدناه واحدا من الأغراض التي تثبت هذا التوجه، لكونه يرتبط بالملمات والنكبات الفردية والجماعية التي تأخذ في كل عصر مظهرا مغايرا.
فإلى أي مدى استطاع الشاعر الحديث والمعاصر أن يشكل الرثاء في صورة تجعله أكثر اتساعا في أشكال تعبيره، وأعظم لفتا للانتباه بفعل ما يرتبط به من المظاهر النفسية والاجتماعية والسياسية؟ وما هي الحدود التي باتت تفصله عن أغراض أخرى كان بعيدا عنها ومنفصلا عنها؟ وما الغاية التي بات يستهدفها في ظل سأم العامة من البكائيات التي ما عادت تحرك في القارئ شيئا لكثرة ما تداولها الشعراء في كل حقبة دون أن تجدي نفعا أو تغير وضعا؟
الشاعر والنكسة:
أطلق العرب اسم" النكبة" على سقوط فلسطين عام 1948، واسم" النكسة" على هزيمة جيوشهم أمام الكيان الإسرائيلي الغاصب عام 1967، وعلى الرغم من الفارق بين الكلمتين، لكون النكسة أخف من النكبة في أحداثها ونتائجها، إلا أن انعكاسهما على العالم العربي أفرادا وجماعات كان واحدا، بل ربما وجدنا من يعتقد أن ما سمي نكسة هو النكبة الحقيقية لأن الاحتلال قضم مزيدا من الأراضى العربية، وعمل على تهويد الأرض وتشريد الأهالي ليجعل العرب يفكرون في استرجاع الجزء بدل الكل الذي كان هدفا مقدسا.
فالنكسة نكبة أضيفت إلى نكبات أخر سجلها التاريخ في صفحات لهذه الأمة، مثل سقوط الأندلس واقتطاع لواء الأسكندرون عن الوطن الأم، وحملات الاستعمار الأوروبي الشرسة على البلاد العربية، وما خلفته من آثار كارثية على مستويات الحياة المختلفة. وبما أن"النكبات شرخ يصدع البناء الاجتماعي على كلّ المستويات، ويعري ما استتر منه، ويظهر الظلال القاتمة التي كانت بعيدة عن النور"[i]، فمن الصعب اعتبارها محطات عابرة في تاريخ العرب الحديث، ودليل ذلك أنها ظلت على امتداد عقود الحدث الذي غير كثيرا من المعالم الثقافية والفكرية العربية؛ فلقد أنهت العصر الرومنسي الحالم بمجد الأمة، كما أفرغت الشعارات المرفوعة منذ 1948 من معانيها، وبدأت مرحلة جلد الذات بحثا عن تفسير لما آل إليه الوضع، وانتظارا لتغيير بعدت ملامحه؛ ودخل الشعراء كغيرهم في خضم الجدل القائم حول أسباب النكسة ونتائجها، كل يبلورها حسب قناعاته السياسية أو اتجاهه الفكري أو انتمائه القومي.
واستفاق قسم هام من الشعراء على واقع آخر غير الذي كانوا يأملونه، وتأزمت علاقاتهم بصناع القرار، ومنظري الوحدة العربية والقومية العربية، فلم يجدوا غير الشعر ملاذا وأنيسا، يفجرون فيه طاقاتهم، ويعبرون من خلاله عن رفضهم للواقع السيئ، وأحيانا يظهرون تمردهم على أنماط التفكير القائمة بوصفها منتجة لذلك الواقع، داعين إلى التغيير الجذري في الأسس التي أوصلت أمة عريقة إلى الانقسام والتشرذم الموصلين إلى الهزيمة. وقد رأينا أسماء كبيرة في عالم الشعر، حركتها النكسة والواقع العربي من قبيل أدونيس ونزار قباني والبياتي وبلند الحيدري وسعدي يوسف وصلاح عبد الصبور وأحمد حجازي وأمل دنقل، وكثيرين غيرهم توزعوا على رقعة الوطن العربي، يجمعهم الهم الواحد، ويختلفون قليلا أو كثيرا في كيفية التعبير عنه.
تطور الرثاء في الشعر العربي:
إن عهد الشعر بالنكسات والنكبات والهزائم ليس جديدا، سواء على مستوى الأفراد حينما يفقد الشاعر عزيزا أو حبيبا أو على مستوى الجماعات والمدن، فما زالت نكبات بغداد العديدة، ودمشق والبصرة والأندلس وغيرها ماثلة في الأذهان، وما زالت نكبة البرامكة، والحلاج وشهداء الكلمة من البشر، تؤكد خللا ما في منظومة العلاقات السياسية والاجتماعية للأمة؛ وهي نكبات بكى فيها الشعراء القيم قبل الأجساد والشجر والحجر، فجاءت أشعارهم ترجمانا لوعي الشاعر المثقف الذي ينظر إلى المستقبل، وهو يندب الحاضر ويرثيه. وكانت قصائدهم مؤثرة تتفاعل مع الوجدان العام، وتدفع بشكل أو بآخر إلى التأمل والتدبر بحثا عن وضع جديد.
بيد أن الراصد لشعر الرثاء في تاريخ شعرنا العربي يلحظ أنه –وإن شهد تنوعا من حيث طرق التعبير وأساليب التعامل مع المفقود- كان في أغلبه بكاء وعويلا وتحسرا على فقد الآخر، ولهذا السبب ركز الشاعر القديم على إبراز الصورة الإيجابية للمرثي وعرض الخصال أو ادعائها أحيانا بوصف ذلك تعويضا عن الغائب وتخفيفا من الفاجعة. إننا نلحظ مثال ذلك واضحا في شعر الخنساء في رثائها صخرا، إذ بقدر ما يتذفق الإحساس بالفاجعة لفقد الفتى السيد  الذي " ساد عشيرته أمردا " تزداد وتيرة الفخر به:
طويلَ النّجادِ رفــيعَ العــــــــــــــــماد     ســــادَ عَـشــيرَتَهُ أمـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــْرَدا
إذا القــوْمُ مَــــدّوا بأيديهِــــــــــــــــــمِ       إلـــــــى المَـــجدِ مدّ إلَيهِ يَـــــــــــــــــــــدا
فـنالَ الذي فـوْقَ أيــــــــــــــــديهِـــمِ      مـــن المجدِ ثمّ مضَى مُصْـعِـــــــــــدا
يـُكَلّفُهُ الـــــقـَوْمُ ما عالهــــــــــــــــــــُمْ      وإنْ كانَ أصغـــرَهم موْلِــــــــــــــــــــــــــــدا
تَرى المجدَ يهوي الَـــــــــــى بيته      يَرى افضلَ الكسبِ انْ يحـــمدَا
وَانَ ذكرَ المجـدُ الفـيــــــــــــــــــــــــتـهُ       تَــأزّرَ بالمَجـدِ ثـمّ ارْتَــــــــــــــــــــــدَى[ii]
بل يبدو لنا أن الشاعرة لم تبك في أخيها مفارقة الحياة فحسب بل بكت أيضا فقد المكانة الاجتماعية التي كان يتربع عليها رغم حداثة سنه بوصفه مشروع سيد قبيلة كان يفترض أن تمتد به السنون ليكون مثال الزعيم ورمز القيادة. وهذا النمط من الرثاء نلفيه في كل قصائد ومقطوعات رثائها صخرا؛ إذ ما فتئت تردد إيمانها بكماله (هو الفتى الكامل الحامي حقيقته...)، وهي العبارة التي ربما اختصرت رأيها في أخيها الذي عرف بها وعرفت به حتى يكاد شعرها يقتصر على تلك العلاقة الأخوية الفريدة.
وبتطور الزمن انتقل الشاعر العربي إلى صورة أخرى من الرثاء تمثل مرحلة وعي متطورة بالعلائق التي تربط الإنسان بمحيطه متعدد الأوجه، فإذا أخذنا شاعرا مثل أبي البقاء الرندي في بكائيته الشهيرة وجدناه أكثر إدراكا لحجم الفاجعة حينما تصاب بها أمة في بقعة مهمة من العالم الإسلامي آنذاك؛ فينتقل بنا إلى ما يعرف برثاء المدن، وإن كان لا يرثي المدن في عمرانها أو موت أفرادها الموت المقدر المحتم، بقدر ما يرثي قيمها ومظاهرها الحضارية التي تمثل الإسلام الذي انتشر شرقا وغربا لنشر التوحيد والسلام والطمأنينة في هذا العالم الفسيح.
صحيح أن طابع الحزن والأسى ظاهر في النص، غير أن القارئ لا يخطئ رؤية بعد النظر الذي تمتع بها الشاعر. حين قال في رثاء الأندلس[iii]:
تبكي الحنيفية البيضاء مــن أســـــــــــــف      كما بكى لفــــــراق الإلف هيمان
على ديار مـــــــــن الإسلام خـــــــــــــــــــــــالية      قد أقفرت ولها بــــــالكفر عُمـرانُ
حيث المساجد قد صارت كنائس ما      فيهــــــــــن إلا نواقيس وصلبــــــــــــانُ
حتى المحاريب تبكي وهي جــــــــامدة     حتى المنـابر ترثي وهــــــــــي عيدان
فهو يبكي أمة فقدت جزءا من جغرافية أسستها على رؤية شاملة موحدة، وهذا الفقد له تداعيات يدركها الشاعر؛ فمرحلة السقوط –بصرف النظر عن أسبابه- لاحت في الأفق إذا لم تتمكن الأمة من تدارك الأمر. ولهذا السبب نلحظ لجوءه إلى تحريك الوتر العاطفي رغبة في تصحيح الموقف فيقول:
كم يستغيث بنا المستضعفون وهم     قتلى وأسرى فــــــما يهتز إنســان
ماذا التقاطع في الإسلام بينـــــــــــــكم     وأنتم يا عباد الله إخــــــــــــــــــــــــوان؟
ألا نفوس أبيًّاتٌ لها هــــــــــــــــــــــــــــــــــمًمٌ      أما على الخير أنصــــارٌ وأعوانُ؟
يا من لذلة قوم بعد عـــــــــــــــــــــــــــــــــزهم      أحال حالهم جــــــــــــــورٌ وطغيـــــــانُ
إن قصيدة الرندي هذه توحي بأن فقد الإنسان والأحبة والجماعة المحدودة عادة ما يهون وتنتهي آثاره بفعل الزمن، لأن الله تعالى حكم على العباد بالفناء، وقد صدر الشاعر قصيدته بهذا المعنى الذي يحمل قوة الحكمة الصحيحة الحاسمة، غير أن فقد دار من ديار الإسلام وما لذلك من انعكاسات على حياة الأمة بأسرها لهو أمر جلل يستحق من الشاعر وممن حوله الاهتمام وبذل الجهد لتفادي الكارثة الحضارية المتوقعة؛ فالخوف هنا هو من القادم المجهول بناء على المعطيات الحاضرة الواضحة.
 وربما استنتجنا –بناء على ذلك- بأن الشاعر كان يملك وقتئذ ما يشبه حس الاستشراف جعل خوفه من الانتقال من سقوط الجزء إلى سقوط الكل أمرا محتملا، حتى وإن يكن في غير الشكل الذي يشهده في الأندلس، وبالتالي ينتقل الشاعر من خوف على سقوط البلد إلى خوف من سقوط الأمة بكل ما تحمله من قيم روحية ومظاهر حضارة أريد لها أن تسود العالم وتضرب المثال الحي لاتحاد المادة والروح.
إن هواجس هذا الصنف من الشعراء ظل يطالعنا بها تاريخ الأدب عبر الحقب المتتالية إلى أن أدركتنا حوادث شبيهة بفقد الأندلس في العصر الحديث، بيد أن الظروف المحيطة بالشاعر تغيرت؛ فهو أمام احتلال أجنبي لأجزاء واسعة من هذا الوطن الكبير خلف أوطانا ممزقة وضعيفة، لا تستطيع الحفاظ على الحد الأدنى من التماسك الذي يبعد عنها الملمات، كما لا تستطيع الصمود أمام ضغوطات الخارج لأن حدودا وهمية وضعها الاستعمار تحولت إلى جدران قوية تفصل بين أجزائه، وتتسبب من حين إلى آخر في حروب بين الإخوة الفرقاء دون طائل أو جدوى، وهو أمام شعوب عربية دخل العويل والشكوى والخيبة قاموس حياتها حتى يئست من عودة مجد طالما تغنى به الأجداد، ورددته الشعارات دون أن يتحقق شيء منه بالشكل المأمول؛ وفوق هذا يرى إنجازات الماضي تتآكل، ويعوضها مزيد من التقهقر التفكير والتخطيط أدى في النهاية إلى هزائم متلاحقة لعل أبرزها نكبة فلسطين التي ما تزال مستمرة وآثارها تتضاعف.
هذه الظروف التي ذكرنا وغيرها أنتجت لنا نوعا جديدا من الشعراء رفضوا أن يكونوا في ركب الخائفين والمستسلمين، أو في ركب المنافقين الذين تستهويهم المنافع الضيقة فيهوّنون في أعين الناس مصائب الأمة، أو في ركب الباكين العاجزين عن كشف الحقائق ومواجهة الخائبين الذين قادوا الأمة إلى الضياع، فاختاروا أن يكونوا في خط النار رغم أن سلاحهم الكلمة، ولكنها كلمة مرة لا تستساغ ولا تهضم تماما كالواقع المفروض؛ وظهر جزء من ذلك في رثاء مختلف عن النماذج التي رأينا آنفا. فالشاعر لم يعد يبكي ويندب، بل يجرح ويشرح ويسخر من شدة المأساة وعظم وقعها على الوجدان، واختفى عند هؤلاء الفخر بالمفقود وعوضه السخر من الفاقد، وخفت حدة التحذير وزاد وقع التقريع والتوبيخ، فتحول الرثاء أخيرا إلى نقد سياسي واجتماعي مؤسس، يقرع ضمائر القراء ويقض مضاجع الساسة.
مثل هذا نجده عند البياتي في قصيدة(الضفادع) [iv]ومطلعها:
ضفادع الحزن على بحيرة المساءْ
كانت تصب في طواحين الليالي الماء
تقارض الثناءْ
ما بينها، وتنشر الغسيل في الهواءْ
وتشرب الشاي، وفي المكاتب الأنيقة البيضاءْ
كانت تقيء حقدها على الجماهير،
على المارد وهو يكسر الأغلال.
ضفادع كانت تسمي نفسها "رجال"
يتقمص الرثاء في هذه القصيدة صورة الهجاء حتى لا يكاد الفرق بينهما يتضح، فيتحدان ويتداخلان ويخدم كل منهما الآخر، غير أن الريادة في البروز تبدو لصالح الرثاء لأن هجاء الأفراد مهما كانت حدته ليس هدفا في ذاته، بل رثاء الواقع المر وما ينجم عنه من مآسي وأضرار تمس شريحة واسعة من الناس والقيم التي يحيون من أجلها، هو ما يدفع الشاعر إلى مهاجمة الفرد أو الجماعة المتسببة في هذا الوضع. وكأن الشاعر يرى من العبث البكاء على كارثة أو نكبة والمتسبب فيهما أو المنتفع منهما مواصل تعميقهما ومختفيا عن لحظ الناس ورصدهم وردة فعلهم، خصوصا إذا كان صانع قرار أو مسؤولا، أو صار إلى ذلك على الرغم مما آل إليه تخطيطه وتدبيره:
رأيتهم في مدن العالم، في شوارع الضباب
في السوق، في المقهى، بلا ضمير
يزيفون الغد والأحلام والمصير
رأيتهم من عرق الجياع
ومن دم الكادحين، يبنون لهم قلاعْ
أعلى من السحاب
حتى إذا ما طلع الفجر، رأيت هذه الضفادع العمياء
على كراسي الحكم في رياء
تغازل الجياع
وتفرش الأرض لهم بالورد والريحان.
وهكذا يتقمص الرثاء الهجاء ليتحول من الاستكانة التي يقتضيها الحزن إلى التوثب الذي يقتضيه الغضب والانفعال، ويحاول الشاعر أن يهتم بالأسباب لا بالنتائج، لأن استمرارية أي وضع رهين بوجود أسبابه وطريقة امتدادها أو تجذرها في النفوس. لهذا وجدنا كثيرا من الشعراء طلقوا الرثاء في صوره التقليدية وتبنوه في صورته الجديدة العنيفة، وبخاصة في ظل التحولات التي يشهدها العالم اليوم.
يبدو الرثاء في صورته الجديدة ظاهرة اغترابية تزداد فيه لهجة التحدي والتمرد على واقع الحال، ويتحول فيه الشاعر إلى الخطاب الجارح ليعبر عن قلق مزمن يأبى أن ينصرف، ويأبى هو أن يكون شاعرا يركب  الموجة العامة، موجة النسيان التي تطفئ النكسات دون أن يعود الحق إلى أصحابه، ودون أن يطرأ تحسن على مستوى حياة الناس المادية والنفسية، بل ربما كانت الواحدة منها تمهيدا لأختها ولو بعد حين.
لم يختف الرثاء التقليدي ولا ينبغي له ذلك، لكن الشاعر الحديث من حقه أن يحدث فيه وفي جميع الأغراض الشعرية التغيير الذي يصنع به التأثير الفعال في القارئ؛ ويساهم به في تشكيل أو تنمية وعي مبني على الصدق يقود نهاية المطاف إلى تصحيح الأوضاع واعتدال الأمور.
الشعر والنكسة: الموقف والتبرير.
كان وقع النكسة على أصحاب العقول قويا ومديا، وخصوصا أولئك الذين كانوا يأملون في نهضة عربية ساهمت حركات التحرر وارتفاع نسبة الوعي بضرورة استرجاع الأمة لهيبتها ومكانتها بين الأمم في جعلها قناعة راسخة وهدفا كبيرا؛ فراح كثير منهم يعيد النظر في كثير من الأفكار والمقولات والشعارات التي تصدرت الحياة العامة للإنسان العربي لفترة طويلة، دون أن يعني ذلك تراجعا عن الإيمان بتلك النهضة. كأنما أدركوا ضرورة المراجعة والتصحيح، ولو بالتشريح المؤلم للواقع العربي وتعريته من عناصر الزيف وأطياف الأحلام الرومنسية التي بنيت على غير الإدراك بما يمليه واقع الأمة من مقومات وتضحيات تحتاج إلى قوة الإنسان أولا قبل قوة المادة وحدة الخطابات.    
ولعل الشعراء كانوا في مقدمة الركب الغاضب، على الرغم من أن ردود أفعالهم لم تكن في مستوى واحد، من حيث التعامل مع النكسة، فلأسباب معينة أخذ بعضهم يلطف وقعها على القارئ العربي، معتبرين إياها خسارة معركة وليست خسارة حرب، يقول الشاعر عبد الغني حسن يرد على من لم ير في النكسة سوى نكبة للأمة:
لا تلمها في الحادثات المــــــــــــلمه     إنها أمــــــــــــــــــــــــــــــــــــــة، وأية أمه؟!
كيف لا يحمل الحــــــوادث شعب    عربي السمات، عـالي الهـــمه؟
لا تفل الخطوب من غـــرب متنيــــ     ه، ولا تثلم المـــــــــــصيبة عزمه
يتلقى من الــــــهـــــــــــــــــــــــــــــزيمة درساً     يتحدى اللياليَ الــمــــــــــــــــدلهمه
فيحيل الدجى وضـــــــــــــــــاءة صبح     ويرد الشكوى حــــلاوة نغمــــــه
ويصوغ العُبوس من صفحة الدهـ     ـر ائتلافًا على الشفاه وبسمه[v]
إن الأوصاف الجميلة هذه التي أوردها الشاعر كان يراد لها أن ترفع المعنويات، وأن تعد الإنسان المقهور المحطم في نفسه وآماله بمستقبل أفضل، يعيد له شيئا من الكرامة المهدورة، وربما يكون التفاؤل مطلوبا بعد النكسات حتى لا يكون السقوط موتا ليس بعده نهوض، فلكل جواد كبوة، ولا بد أن تستفيد الشعوب من أخطائها.
إنما الحرب يا صديقي سجال      فلِمَ اليأسُ عند أول صدمه
بيننا في الوغى لقــــــاء طويــــــــــل      ومواعيد في المعارك جمــــه
 غير أن الواقع يعطي المتشائمين نصيبا من الحق أيضا في غرقهم في التفجع على أمة يعتقدون أنها أصيبت في مقتل، حتى أنهم يعتبرون النكسة لفظا لطيفا جدا للكارثة التي وضعت العالم العربي في موقف لا يحسد عليه.
فنزار قباني لم تترك له النكسة ما يتحفظ عليه في خطابه لصناع القرار، فدعا إلى قطيعة نهائية مع فكر قاد إلى الهزيمة، ويشرح بمرارة الشاعر الواعي أسبابها، فيقول في(هوامش على دفتر النكسة) [vi]:
انعي لكم يا أصدقائي اللغة القديمة
والكتب القديمة
أنعي لكم..
كلامنا المثقوب، كالأحذية القديمة
ومفردات العهر ، والهجاء، والشتيمة
أنعي لكم .. أنعي لكم
نهاية الفكر الذي قاد إلى الهزيمة.
ويتعمد الشاعر الإيغال في السخرية من قدرة الإنسان العربي على الكلام، وعجزه عن تجسيد الكلام: 
إذا خسرنا الحرب لا غرابة
لأننا ندخلها
بكل ما يملك الشرقي من مواهب الخطابة
بالعنتريات التي ما قتلت ذبابة
لأننا ندخلها ..
بمنطق الطبلة والربابة.
هذه اللهجة الجديدة في خطاب الشاعر ستفرض منطقها خلال هذه الفترة الحرجة، ويصبح السلوك السياسي والاجتماعي وحتى الثقافي في قفص الاتهام، وتشحذ اللغة أسلحتها للإيذاء، كنتيجة لعجز العقل والوجدان عن استيعاب الذي كان.
ويذهب حيدر حيدر مع الشعراء والأدباء الذين أعلنوا انتهاء الزمن الجميل، على أن لا يدفعهم ذلك إلى الاستسلام للحزن والصمت وانتظار المجهول، فيقول:" ولأنني مدرك حجم الكارثة والانحطاط اللامتناهي والخراب السائد، والمستقبل الأسود، مصمم أنا بكامل وعيي ومعرفتي أن أكون صوتا فضائحيا في مواجهة هذا التدهور والانحطاط والعسف المبرمج"[vii] فأطلق العنان للنص الأدبي المستشعر للفجيعة وأعاصيرها، شعرا ورواية ومسرحية، و"تناول جوانبها المتعددة عبر وصف تفصيلي للإنسان العربي، في إطار فضائي- زمني، تطبعه علائق القهر والقمع والحرمان والاستغلال... إلى التساؤل الساخر المتشكّك في طروحات السياسة وبريق الشعارات.[viii]  
       ولقد ألقت النكسة بظلالها على قريحة الشاعر محمد الماغوط فتناولها بطريقة ربما اختلفت شيئا ما عن تناول زملائه السابقين، فديوانه (الفرح ليس مهنتي)، الذي تزامن مع النكسة، يعكس آلام هذه المرحلة، ويحمل شحنة إضافية من السخط والغضب لا تخفى على القارئ، إذ يعد" تعبيرا موجعا محتشدا بالعفوية ومشاعر السخط التي فجرتها هزيمة العام السابع والستين"[ix]؛ فقد انضاف ألم المعاناة الذاتية، إلى ألم الجماعة، الذي يمثله الشعور القومي بقسوة النكسة، فأصبح الشاعر كمثقف كأنه فقد" مصداقيته، وبات على هامش الفعل التاريخي.. لقد انكشف الوهم الكبير الذي ألهم المثقفين تلك المشاريع الشاملة والإيديولوجيات الثورية، لتغيير العالم وتحرير الشعوب من القهر والاستلاب."[x]
وعبثا نبحث عن تصريح بالنكسة في ديوانه هذا، لكن صورها واضحة من خلال حالة اليأس التي تطفو على لغته مُرة وقاسية، وفي نداءاته اليائسة وأوامره الجافة محاولا تفجير آلامه القومية دون أن يضطر إلى مشاركة الآخرين لغة انتقاداتهم المباشرة للحدث.
يقول في قصيدة (بعد تفكير طويل) [xi]
قولوا لوطني الصغير الجارح كالنمر
إنني أرفع سبابتي كتلميذ
طالبا الموت أو الرحيل
ولكن
لي بذمته بضعة أناشيد عتيقة
من أيام الطفولة
وأريدها الآن .
إن تصغير الوطن، وطلب الموت أو الرحيل، وتعتيق الأناشيد، كلها إشارات إلى ما يعتري الماغوط من غضب وحنق، إنه لا يريد أن يبقى في وطن لم يعد يحقق له الإحساس بالعزة، ويطالب بالأناشيد التي صدح بها زمنا، تمجيدا له وأملا في أن يكون عرينا له ولغيره من أبنائه، وهاهو يكتشف أنه مجرد ضحية من ضحايا ضعفه.
ويوغل الشاعر في التعبير عن المأساة، عندما لا يرى في الوطن غير تابوت ممدد لا حراك به، وأكثر من هذا لا يستحق الرثاء، وهو أبسط شيء يقدم إذا انعدمت الحيل والرغبة في فعل شيء ما، ثم هو لا يريد أن يخاطبه مباشرة بل يتخذ بينه وبين الوطن حجاب، كأنما يمارس حقه في الخصومة والإعراض:
قولوا لهذا التابوت الممدد حتى شواطئ الأطلسي
إنني لا أملك ثمن المنديل لأرثيه.
من ساحات الرجم في مكة
إلى قاعات الرقص في غرناطة
جراح مكسوة بشعر الصدر
وأوسمة لم يبق منها سوى الخطافات.
ويفجع بزيف الأحلام التي بنيت على الأوهام والمظاهر التي عرتها الأحداث، فانعكس كل ذلك مرارة تدفع الشاعر إلى استكثار الوحل على أرصفة الوطن:
فاهربي أيتها الغيوم
فأرصفة الوطن
لم تعد جديرة حتى بالوحل.
وفجرت نكسة 1967 قريحة الشاعر أمل دنقل، فأنتج (البكاء بين يدي زرقاء اليمامة)، القصيدة التي أراد لها أن تكون" مقاومة للأخطاء النابعة من الداخل، ومقاومة للعدوان القادم من الخارج"[xii] معا. فبناها وفق رؤية دقيقة أدى فيها استحضار التراث العربي القديم دورا مهما من حيث الدلالة على الجانب المأساوى من الواقع:
أسأل يا زرقاء
عم وقفتي العزلاء بين السيف .. والجدار
عن صرخة المرأة بين السبي والفرار
كيف حملت العار
ثم مشيت؟  دون أن أقتل نفسي؟ دون أن أنهار؟
ودون أن يسقط لحمي .. من غبار التربة المدنسة؟
تكلمي أيتها النبية المقدسة
تكلمي بالله .. باللعنة .. بالشيطان ..
لا تغمضي عينيك ، فالجردان
تلعق من دمي حساءها..ولا أردها
تكلمي .. لشد ما أنا مهان
لا الليل يخفي عورتي .. ولا الجدران
ولا اختبائي في الصحيفة التي أشدها..
ولا احتمائي في سحائب الدخان..[xiii]
فإذا كانت هذه بكائية تتوقف عند وصف الحال المزرية لنفسية الإنسان العربي بعد النكسة، فإن الشاعر ينتقل بعدها إلى نقد جارح قاس يعكس ما في نفسه من الخيبة وما يخيم عليه من الغضب ؛ فاستخدامه لـ (زرقاء اليمامة) يحمل دلالة المأساة حين يرى بعضهم سبل النجاة من الخطر قبل وقوعه فيُتجاهل أو يحتقر، فكأنما يشير الشاعر إلى سوء تقدير في السياسة التي قادت الحرب دونما معرفة دقيقة بما ستؤول إليه أحداثها، ودونما إدراك لمدى كفاية العوامل المؤدية لنجاحها. لذلك يجعل الشاعر (زرقاء) نبية مقدسة، وقلما يصان نبي في قومه.
ثم ينتقل دنقل إلى توظيف عنترة ليفرغ من خلاله ما تبقى من حسرته، لعله يجد في ذلك مواساة وسلوى، فيأخذ منه الإحساس بالإهمال والاحتقار في الوقت الذي لا يوجد من يحمي الديار مثله حين يتخاذل الرجال :
أيتها النبية المقدسة ..
لا تسكتي .. فقد سَكَتُّ سَنَةً فَسَنَةً ..
لكي أنال فضلة الأمانْ
قيل ليَ "اخرسْ .."
فخرستُ .. وعميت .. وائتممتُ بالخصيان !
ظللتُ في عبيد ( عبسِ ) أحرس القطعان
أجتزُّ صوفَها ..
أردُّ نوقها ..
أنام في حظائر النسيان
طعاميَ : الكسرةُ .. والماءُ .. وبعض الثمرات اليابسة .
وها أنا في ساعة الطعانْ
ساعةَ أن تخاذل الكماةُ .. والرماةُ .. والفرسانْ !
دُعيت للميدان
أنا الذي ما ذقتُ لحمَ الضأن ..
أنا الذي لا حولَ لي أو شأن
أنا الذي أقصيت عن مجالس الفتيان ،
أدعى إلى الموت .. ولم أدع إلى المجالسة !![xiv]
لو كان القوم صدقوا (زرقاء) ما وقعوا في المحنة، ولو كانوا جالسوا (عنترة) ما انتظروا لحظة النكسة ليتوسلوا هبته في اللحظة الضائعة، حين لا يستطيع لتدارك الأمور حيلة.
إن اختلاف الشعراء في نظرتهم إلى النكسة، أو إلى أي حدث اجتماعي أو سياسي آخر لا ينفي أن يكون الهدف المبتغى واحدا، وهو في الغالب تنبيه الإنسان العربي إلى جلال الحدث، وضرورة تجاوزه، والاستفادة منه، وإن كان ذلك لا يكون إلا بإعادة الاعتبار لآليات تفعيل المجتمع، خصوصا ما تعلق بالحرية والديمقراطية وما ينجر عنهما من مفاهيم لا تكتفي بالشعار، بل تتجاوزه إلى الفعل والعمل.وهم بذلك يوسعون آفاق اهتمامهم ليشمل" بشكل جوهري النظام القيمي والاجتماعي والأخلاقي، وماهية الأهداف التي يحملها أبناء الوطن       الواحد". [xv]
تداعيات الموقف من النكسة:
إن الحديث عن تداعيات الموقف من النكسة يوقعنا حتما في دائرة الحديث عن علاقة المثقف عموما بالسلطة، وهي القضية الشائكة التي تناولها عدد لا يستهان به من الكتاب والمفكرين، ووصلوا فيها إلى نتائج متباينة بحسب الانتماءات السياسية والأيديولوجية والضغوطات التي يتعرضون لها. 
فالسلطة هي صانعة الأحداث الكبرى التي يشهدها المجتمع إيجابا وسلبا، وهي تريد من المثقف أن يبارك أنجازاتها، ويتفهم سقطاتها، ويمكن أن تتجاوز عن نقده المحدود إن لم يكن فيه ما يزعج أو يؤلب الرأي العام. فالمثقف في نظرها وسيلة من وسائل الدعاية لمشاريعها إن كان من النوع الوديع، وسلاح يهدد كيانها واستمراريتها إن كان من النوع الشرس العنيد. وفي كلا الحالين يتعامل المثقف مع السلطة بحذر وحيطة، لأن التجارب الكثيرة التي عرفنا بها التاريخ تؤكد له ذلك. فالسلطة في النهاية لفظ مرادف للقوة والبطش، والمثقف رمز للضعف والتضحية، وإن كان ثمة من يرفض حصر العلاقة تلك في هذه المعادلة المخيفة، ويرى لها أفقا آخر أكثر جدوى.[xvi]
ويبدو صحيحا أن العالم العربي لا يمثل استثناء من حيث سوء استقرار الفرد النفسي والاجتماعي، أو من حيث سوء علاقة الفرد بالمنظومة السياسية والاجتماعية، لكن الظروف التي مر بها في العصر الحديث ربما جعلته أحد النماذج السيئة في هذا المجال، بالنظر إلى حجم الإحباط والآلام التي ترجمها الإنتاج الأدبي بأنواعه المختلفة، والأديب بوصفه مثقفا متميزا أقدر طبقات المجتمع شعورا بالوضع الاجتماعي والقيمي من غيره، كما يعد أفضلهم وسيلة في الكشف والإبانة، لأن وسائله التعبيرية أوضح أثرا على المستوى البعيد.
لهذا وجدنا من تداعيات  النكسة تعرض الشاعر الرافض إلى السجن أو النفي سواء بمعناهما المكاني أو بمعناهما النفسي المعنوي نتيجة لرفضه السكوت عما يعتقد أنه سياسة خاطئة أوصلت الوطن أو الأمة إلى النكسة؛ والنفي لا ينحصر في البعد عن الأوطان فقط، كما أن السجن لا يعني فقط تقييد الحرية فترة من الزمن، بل يمتد إلى نوع آخر هو المنفى داخل الوطن، وإلى سجن الأفكار والعقول، وتكريس مظاهر التقهقر والتخلف، وعندئذ يشعر المرء أن الذي يحيط به غريب عنه، أو أنه منبوذ بسبب موقف أو اتجاه لا يقبله الآخر، أو أنه ممنوع من التعبير عن نفسه بحرية، فيكون أمامه خيار العزلة وحيدا يفجر فيه الإبداع بقدر ما يمزق قلبه ألما وحيرة.
وإذا كان لسجن أو نفى الشعراء من محاسن، فمنها اكتساب القدرة على التحدي والمواجهة، وأيضا على الإبداع الذي ربما يتفتق فيهما وينمو ليكون الوجه الآخر للمعاناة، بل إن سجن الشاعر أو نفيه قد يعد في حد ذاته شهادة له لا عليه، يقول هيجو" هاكم رجلا تحطم حتى لم يعد يملك سوى شرفه، وتجرد من كل شيء حتى لم يعد له سوى ضميره، وانعزل عن الدنيا حتى لم يبق بالقرب منه سوى العدالة، وأنكره الناس حتى لم يبق معه سوى الحقيقة، وألقي به في الظلمات حتى لم يبق له سوى الشمس، ذلكم هو رجل المنفى."[xvii]
غير أن أغلب الشعراء الرافضين عانوا منفى داخليا قبل أن يكون منفى عن وطن أو مدينة، فإذا كان الثاني مؤقتا في الغالب، وقد يزول بعودة الشاعر إلى أحضان بلده وقومه، فإن الأول أكثر مرارة؛ لأنه يعاكس فيه الفطرة الميالة إلى التعايش والاندماج، ويقضي في داخله على ما تبقى من شعور بالعدالة والإنصاف عند بني جلدته، كأنما هو غريب داخل وسطه، ما يدفعه إلى الدفاع عن نفسه بوسائله الخاصة؛ ذلك الدفاع ضد محاولات سلبه حقه في عالم لا يعتقد الشاعر أنه في  مستواه، لأنه لا يؤمن بالمواطنة بل بالولاءات أو الحزبية أو العصبية وما إليها من أنظمة الهدر وأشكال التعسكر أو التخندق التي تقسم الناس إلى فئات، ترضى عن هذه وتقمع تلك، إلى حين تنقلب المعادلة، وهكذا دواليك.
وفي الحالتين نجد حضور المكان قويا، رغم أنه ليس سببا مباشرا في شعور الشاعر بالوحدة والمعاناة، فلا يمكن للمكان أن ينعزل عن عناصره المرتبطة به ارتباطا آليا، كالإنسان والزمان، فكل من هذه الثلاثة مكون أساسي للحياة في شكلها الاجتماعي أولا، ثم في أشكالها الأخرى المتفرعة. لهذا نجد الشاعر يطرب للمكان أو يشكو منه بناء على العلاقة التي تجمعه بالناس أو بالآخر عموما. فالعلاقة بالمكان" تتناول الموقع من حيث دلالاته المتراكبة: موقع الذات في المجتمع ومكانتها فيه، وموقع الفرد من الجماعة التي يعيش فيها ومكانته عندها، والموقع باعتباره جغرافيا الذات والعالم."[xviii]
ومهما يكن من أمر، فإن الشعور بالنفي أو السجن بسبب الرأي أو الانتماء، في أي من صورهما يتعارض مع المواطنة التي ليس من شروطها" الاتفاق في الرأي أو الاشتراك في الدين، أو المذهب أو القومية، إن مفهوم المواطنة يستوعب كل هذه التعددات والتنوعات، ويجعل المناخ السياسي والثقافي والاجتماعي مؤاتيا لكي تمارس كل هذه التعددات دورها ووظيفتها الحضارية والوطنية في إثراء الواقع الوطني ومده بأسباب الاستقرار والانسجام."[xix] وإذا اضمحل الشعور بالمواطنة عند الشاعر، فإنه من الصعب أن يتحكم في آلته التعبيرية، وعلى القارئ أن يستعد لكثير من المفاجآت التي يصب أغلبها في إطار التمرد والثورة والرفض.
خاتمــــة:
ويمكننا أن نخلص إلى مجموعة من النتائج نوجزها فيما يأتي:
لقد كان للنكسات الحديثة دور مهم في تحول الرثاء في الشعر العربي إلى خطاب نقدي عميق يحاول أن يبحث في الأسباب ليصل إلى الاستنتاجات الكفيلة بإصلاح الأوضاع الرديئة التي تنتظر من يأخذ بها.
إن الحدود بين الرثاء المعاصر وبين الهجاء والسخرية تضاءلت حتى باتت واهية، فكل منها يعانق الآخر، ويدفع الشاعر إلى امتلاك القدرة على تحريك مشاعر القراء وشغل عقول الباحثين عن الحلول لأوضاع ما فتئت تتعاظم وتتلاحق. وفي كثير من القصائد من هذا النوع يصعب تحديد الغرض الشعري، إلا إذا اعتبرنا مسحة الأسى والحزن تغليبا لجو الرثاء على غيره.
إن الرثاء المعاصر أنتج الشاعر العنيد الذي لا يمنعه انتماؤه ولا التزامه من القسوة على صناع الهزائم، وفضح محترفي التشدق والادعاء، الأمر الذي كلف الشاعر ثمنا باهضا في نفسه وكرامته، وكشف عن حقيقة معدنه عندما فرضت عليه القيود وحرم الامتياز الذي منح لغيره من المسالمين الذين يهتمون بصغائر الأمور.
لقد أثبتت التحولات الشعرية المعاصرة أن مجاراة الأشكال الشعرية القادمة من الغرب لم يكن حبيس الشكل والقوالب والأوزان، فلقد أبان الشاعر المعاصر عن رغبة جامحة في أن يكون التجديد أكثر عمقا حين يتناول القضايا الكبرى والشائكة بشجاعة وإصرار، ويحمل تعابيره ثقل المعاني والدلالات المركزة، فتستحق القصيدة بذلك القراءة العميقة المتأملة  بدل القراءة السطحية العابرة.
لا نريد من وراء هذا الحديث أن نستخف بالشاعر القديم ولا بالأغراض والموضوعات التي طرقها، فلقد كانت في زمنه ملائمة لما تطلبه البيئة وما هو شائع فيها من نظم وقوانين وأعراف، ولكننا نريد الوصول إلى الاعتقاد بأن التغيرات والتحولات التي يشهدها الشعر الحديث والمعاصر بفعل عوامل كثيرة داخلية وخارجية تملى على الشاعر أن يبحث عما يلائم بيئته الجديدة، وما يوصل رسالته إلى الوسط الذي يقصده. وعلينا أن ننظر إلى تلك التغيرات على أنها الإضافة الإبداعية التي تبحث لنفسها عن قوة للتأثير في القارئ ودفعه إلى الفعل البناء والتغيير المحمود.
ولا تتعلق التحولات التي نراها في شعرنا الحديث بالرثاء فقط، بل من يمكن رؤيتها في كثير من الأغراض وأساليب التعبير والتفكير معا دونما خوف من ضياع النموذج الأصيل؛ ذلك أن البحث الدؤوب عن الجديد الذي يلائم المرحلة وقضاياها المعقدة  أمر مطلوب إذا أراد الشاعر أن يحافظ على مكانه ودوره في المجتمع، بل إن شعرا حيا متحركا كفيل بأن يساهم في إدراج الشاعر ضمن الفاعلين في التغيير السياسي والاجتماعي المنشود، وذلك موقعه الطبيعي الذي يلبق به.


[i]   محمد حمدان، أدب النكبة في التراث العربي، 205 ، منشورات اتحاد الكتاب العرب – دمشق ، 2004
[ii]   الخنساء . الديوان . شرح: حمدو طماس . 31. دار المعرفة – بيروت . ط2. 2004
[iv]     البياتي . الديوان . المجلد الثاني . 179. دار العودة- بيروت. ط3 ، 1979.
[v]    وردت القصيدة في مقال لوديع فلسطين بعنوان" النكسة في  مرآت ثلاثة شعراء" و يقول إن الشاعر أهداه نسخة منها . انظر المقال على الرابط:
[vi]      نزار قباني وأروع قصائده، 368. تقديم غالية محمد حسن ، المكتبة الحديثة ناشرون -بيروت – دار الهدى –عين مليلة ،(د.ت)
[vii]     حيدر حيدر، أوراق المنفى ، 8 ، دار أمواج للطباعة والنشر – بيروت ، ط1 ، 1993
[viii]    محمد رضوان،  محنة الذات  بين السلطة والقبيلة ، 9 ، اتحاد الكتاب العرب – دمشق . 2002
[ix]     جابر عصفور، رؤى العالم ، 178، المركز الثقافي العربي- الدار البيضاء، ط1، 2008
[x]    على حرب ، الاستلاب والارتداد، 78. المركز الثقافي العربي – بيروت / الدار البيضاء .ط1 . 1997
[xi]   محمد الماغوط، الأعمال الشعرية ، 191، دار المدى- دمشق. ط2، 2006
[xii]    عبد العزيز المقالح (مقدمة الأعمال الشعرية الكاملة لأمل دنقل). 12. مكتبة مدبولي – القاهرة . ط3، 1987.
[xiii]    أمل دنقل، الأعمال الشعرية الكاملة. 121.
[xiv]    م. نفسه، 123.
[xv]   محمد محفوظ، الحرية والإصلاح في العالم العربي، 119، الدار العربية للعلوم – بيروت ، ط1 ، 2005.
[xvi]    انظر: طرح حليم بركات في هذا الشأن في كتابه " غربة الكاتب العربي" 157 وما بعدها، دار الساقي – بيروت –لبنان. ط1، 2011.
[xvii]   فيكتور هوجو، رسائل وأحاديث من المنفى، تر: أحمد رضا محمد رضا،6، الهيئة المصرية العامة للكتاب. 1986
[xviii]   انظر: مصطفى حجازي، الإنسان المهدور ، 256، المركز الثقافي العربي – الدار البيضاء . ط1، 2005
[xix]    محمد محفوظ ، الحرية والإصلاح في العالم العربي ، 110