السبت، 28 يونيو 2014

الإيقاع في قصيدة النثر: شعر الماغوط أنموذجا



الإيقاع في قصيدة النثر
شعر الماغوط أنموذجا

د.رمضان حينوني/ 
المركز الجامعي بتامنغست




مقدمة:
ينطلق كثير من الدارسين في رفضهم لقصيدة النثر من خوفهم على أصالة القصيدة العربية من هجمة الروح الأوروبية التي أتت على كثير من جوانب حياة الإنسان العربي المعاصر، كما نجد الوزن العروضي في دائرة الضوء، سواء أتعلق الأمر بالمدافعين عن الشعر الجديد أو أولئك الذين يرفضونه ويحاولون جهدهم إخراجه من دائرة الشعر. غير أن المفارقة تكمن في رفض بعض الذين يؤمنون بالتجديد لقصيدة النثر، من أمثال نازك الملائكة في كتابها (قضايا الشعر المعاصر)، الذي انتقدت فيه الماغوط وأمثاله من الذين يكتبون- في نظرها- نثرا يسمونه شعرا.
والغريب أن مثل هذه الأحكام سبق أن سلطت على قصيدة التفعيلة ذاتها التي دعت إليها نازك الملائكة والبياتي والسياب وغيرهم من الذين رأوا أنها نوع من الشعر الذي يحاول الانعتاق من القيود الصارمة للوزن والقافية، ونذكر في هذا السياق ما جرى بين أحمد حجازي والعقاد حين اعترض الثاني على مشاركة الشعراء الشباب الذين ينظمون على التفعيلة في التظاهرات الأدبية الكبيرة، ما دفع حجازي إلى هجائه بقصيدة موزونة على البسيط، وكأنما يبرهن له أن ترك الوزن لا يعني عدم القدرة عليه.
على أن انتقاد القصيدة الجديدة لم يكن من خصومها فقط، بل من بعض روادها أيضا من أمثال جبرا إبراهيم جبرا، ومحمود درويش، وأدونيس، حين نبهوا إلى أن تقييم العمل الأدبي على اختلاف أنواعه من المهم انطلاقه من نصوص ناضجة لا النصوص التي تقلد الأشكال أو تبتدعها من دون رؤية إبداعية حقيقية؛ لهذا وجدنا هؤلاء الرواد ينكرون على المتطفلين الذين يكتبون كلاما يسمونه شعرا تشويههم لقصيدة التفعيلة أو قصيدة النثر.
وننطلق في هذه الدراسة من فكرة أن قصيدة النثر بوصفها واحدة من النماذج الشعرية الجديدة لا تخلو من العناصر الشعرية، ومنها الإيقاع الذي تتلون أشكاله وتتعدد مصادره، من غير أن يكون مشابها لإيقاع القصيدة الخليلية، مشددين على أن الأولى تحتاج إلى قراءة خاصة تحسن الغوص في بناها المختلفة، وتتمكن من الوقوف على تلك العناصر الشعرية المتوارية خلف البساطة في الشكل والتعبير.

1- مفهوم الإيقاع عند نقاد قصيدة النثر.
أثير جدل واسع حول مسألة الإيقاع في قصيدة النثر العربية، خصوصا بعد أن سيطر النموذج الموزون لقرون طويلة، وفرض مقياسا للتجنيس، وهو الجدل الذي كان مصدره ما كتبته سوزان برنار في كتابها الشهير عن (قصيدة النثر)، والذي وصلت فيه إلى أن" مفهوم الإيقاع واضح جدا حينما يطبق على الموسيقى، ولكنه يصبح كثير الغموض حينما نطبقه على الشعر وعلى النثر خاصة."[1] هذه الصعوبة في تحديد الإيقاع هي جزء من الصعوبة التي نجدها في تحديد ملامح قصيدة النثر ذاتها كما تؤكد برنار في مقدمة كتابها بالقول:" إن قصيدة النثر قد أنكرت على نحو تام قوانين علم العروض، ورفضت بإصرار أن تنقاد للتقنين، وتفسر الإرادة الفوضوية الكامنة في أصلها تعدد أشكالها، كما تفسر الصعوبة التي يواجهها المرء في تحديد هويتها ومعالمها:"[2]
وقد اختلفت الآراء حول مسألة الإيقاع ومكوناته وصفاته، والفرق بين إيقاع القصيدة الكلاسيكية والقصيدة الجديدة المعاصرة، ولكن الإجماع يكاد يحدث حول اتساع مجال الإيقاع مقارنة بالوزن، ومن هنا كان السعي إلى بناء موسيقي بأشكال جديدة ومتجددة تحديا مستمرا عند الشعراء الذين سعوا إلى التجديد ونظروا له، ثم طلبوا من القارئ أن يتخلى عن نظرته الثابتة إلى علاقة الشعر بنمط واحد من الموسيقى هو الوزن والقافية، وأكدوا أن البنية الشعرية "هي بنية شكلية تحاول أن تخلق موسيقاها، أي إيقاعها، بل إن مفهوم الموسيقا الشعرية أوسع بكثير من أن نقزمه بإيقاع أو تنغيم. الإيقاع تكرار دوري لعناصر متناوبة في النص تفصل بينها وقفات زمنية محددة، وليس من الضروري أن تكون هذه الوحدات عروضية تتشكل من بنية صوتية بحتة، لأنه مرتبط بمستويات النص المختلفة، فهو إيقاع نص، نجده في أي مستوى من مستويات البنية النصية"[3]
 ويذهب بعض النقاد إلى التأكيد على عدم وجود صلة حقيقية بين الإيقاع الذي تتبناه قصيدة النثر، وبين الإيقاع الشعري كما يتجسد في الوعي الشعري العربي، هذا ما يراه كمال أبو ديب في قوله:" الحقيقة البسيطة هي أن قصيدة النثر لا أصول لها في الإيقاع المعروف على مستوى تصوري، أي مستوى التحديد الواعي للشعرية عند العرب."[4]
ويورد أدونيس أمثلة لذلك بقوله:" إيقاع الجملة وعلائق الأصوات والمعاني والصور، وطاقة الكلام الإيحائية والذيول التي تجرها الإيحاءات وراءها من الأصداء المتلونة المتعددة. هذه كلها موسيقى وهي مستقلة عن الشكل المنظوم. قد توجد فيه، وقد توجد دونه"[5]، وهو الأمر الذي يراه رضوان القضماتي أيضا في قوله:" التناوب بين البوح والانفعال، أو بين السرد والوصف، بين توتر متن النص وارتخائه، بين الصورة الحسية والصورة الذهنية، بين بنية تركيبية اسمية وأخرى فعلية، إنها عناصر تخلق إيقاع قصيدة النثر الذي يتميز بإمكانية تحديده من خلال سمات محددة تقوم على التقابل والتناوب، أما تلك التي لا تكتسب تلك السمات فستبقي النثر نصاً نثرياً لا قصيدة شعرية."[6]

2-  الماغوط وقصيدة النثر:
عندما حدد الماغوط الفرق بينه وبين أدونيس ثقافة وشعرا، كان يبدو وكأنه يبرئ نفسه- من حيث يدري أو لا يدري- من الانسياق نحو التبعية الشعرية للأدب الغربي، من جهة، ومن عدم الرغبة-أو القدرة-على شعر الرؤيا الذي انتهجته جماعة (شعر)، فاختار لنفسه ما اصطُلح على تسميته بشعر الشفوية التي تقوم على"إعداد الكلمات العادية التي تلقي طاقات شعرية تقربها من الكلام الشعري وتبعدها من الإخبار والوصف والتقرير"[7]
 ولقد حاول أن يُثبت أن سليقته الشعرية هي وحدها التي قادته إلى إنتاج هذه النصوص التي تضاربت الآراء حول جنسها وهويتها وغاياتها، بل يذهب بعيدا في الصراحة فيقر أنه كان يكتب ما يعتقد أنه مذكرات في الفترة العصيبة التي مر بها في السجن، قبل أن يعمدها أدونيس ويدخلها مجال الشعر، وبعد فترة من ذلك يكتشف أيضا أنه كاتب مسرحي حين تفعل معه سنية صالح زوجته الشيء نفسه في تحديد جنس مسرحيته (العصفور الأحدب)[8].
إن الحادثتين السابق ذكرهما تؤكدان أن هم الماغوط لم يكن في اتباع نمط معين في الكتابة، بل كان منقادا إليها بعفوية واضحة، مقدما ما يريد أن يعبر عنه عن خصائص القالب الذي يحتويه، وهو ما جعله واحدا من الشعراء الذين استطاعوا أن يتميزوا بنهج تعبيري متفرد بغض النظر عن الآراء التي تضاربت حول ذلك النهج.
وعلاقة الماغوط بقصيدة النثر تتوضح من خلال أمرين: الأول هو رؤيته الشخصية لهذا النمط الشعري الغريب على الذائقة العربية في منتصف القرن العشرين، والثاني في آراء النقاد الذين تناولوا قصيدة النثر كما أذاعها الماغوط وأوجد لها مكانا مقبولا في ساحة الشعر العربي. ولعل اجتماعه مع جماعة (شعر) هو الذي دفعه إلى تبني مواقف معينة من الشعر وإن لم يكن بالعمق الذي نجده عند غالبية شعراء الحداثة، وهي مواقف في مجملها منثورة في حواراته العديدة.
ولا يرى الماغوط للشعر العربي قدسية تعصمه من التغيرات والتعديلات التي تحافظ على جوهره دون أن تمنعه من ميزة التنوع والاختلاف والانطلاق والحرية، وعليه، فلا بد للشاعر من عمل أشبه "بعملية بتر لكل الأطراف والزوائد المعيقة لاندفاع التجربة كي تتخذ إطارها الواضح والمختلف"[9] وهي عملية دعا إليها كثير من الشعراء مثل نازك الملائكة في ما أسمته بالشعر الحر، وإن كان بينهم شيء من الاختلاف في النظرة إلى حدود التغيير والتحرر، ولكن الهدف كان واحدا ممثلا في البحث عن سبيل يجعل الشعر ترجمة حقيقية  للتجربة الإنسانية بعيدا عن القوالب والحواجز .
وإعاقة التجربة في نظر الماغوط تتعلق بالجانب الموسيقي في القصيدة بالدرجة الأولى، ولقد اختار– إراديا أم لا – الخوض في قصيدة النثر التي تعد أبعد الأشكال الشعرية عن الوزن والقافية وهما الأساس الموسيقي للقصيدة العربية الأصيلة، منطلقا من اعتقاده أن" الشعر [مثل] نوع من الحيوان البري، الوزن والقافية والتفعيلة تدجنه"، وقد رفض تدجين الشعر، كما يقول، مفترضا أن" قصيدة النثر هي أول بادرة حنان وتواضع في مضمار الشعر العربي الذي كان قائما على القسوة والغطرسة اللفظية.
 ويرى أيضا أن هذه القصيدة مرنة وتستوعب التجارب المعاصرة بكل غزارتها وتعقيداتها، كما أنها تضع الشاعر وجها لوجه أمام التجربة، وتضطره إلى مواجهة الأشياء دون لف وراء البحور، أو دوران على القوافي."[10] فهو يربط بين سطوة الوزن العروضي وقسوة الواقع الذي ظل يشكو منه منذ رمته الأقدار في سجن المزة، ولا يعني ذلك أن آراءه عاطفية صرفة، بقدر ما يعني أنه ينطلق من تجربة تفرض عليه النظر إلى الشعر بوصفه ميدانا يغترف من الحياة اليومية الواقعية، وليس ظاهرة ميتافيزيقية غامضة تسبح في مجهول النظريات والاعتقادات غيرها.
وإذا كان الماغوط لا يعيب على الشعر الكلاسيكي ارتباطه بالوزن والقافية إن كان أصيلا ونابعا عن تجربة صادقة، كمثال المتنبي، فإنه بالمقابل يرفض أن يكون هذا النموذج مصونا وملزما في كل أحواله وفي كل العصور وأمام جميع التجارب، لذا كان فتح المجال أمام قصيدة النثر أو فرضها بوجه من الأوجه على الساحة الشعرية أمرا لا بد منه، فمن حقها – في نظره- أن " تسعى في تجاربها الأصيلة كي تصل إلى الصدارة دون زكاة من رأسماليي الأوزان والقوافي، باعتبارها رؤية جديدة للعالم وسط زحام الاعتبارات الشاحبة وتقاليد الطرب ورقص الكلمات."[11]
ويأتي رفض الشاعر لكون الوزن والقافية عمادا للشعر إلى رفضه العام لسلطة القوانين التي رأى فيها دائما أنها فوقية وتسير عكس إرادة الإنسان الضعيف خاصة، وبما أن القانون ليس دائما صحيحا أو إيجابيا، فإن الخروج عليه يعد في أحد أشكاله تخلصا من السلطة التي أصدرته. وبالتالي فإن تمرد الشاعر على النظام الموسيقي للقصيدة ليس نابعا من حاجة شعرية إبداعية صرفة دائما، بل أيضا من التراكمات السلبية التي أحدثتها الأوضاع السياسية والاجتماعية في عالم الشعراء، خاصة أن علاقة المثقف بالسلطة ظل على مر الأزمنة مشوبا بكثير من الخلاف، بل والصدام أيضا.

3- الإيقاع في قصيدة الماغوط:
ويلتقي الماغوط مع جماعة شعر وأدونيس تحديدا في النظر إلى موسيقى الشعر وإيقاعاته، وإن كان الأول لم يعبر عن ذلك بتوسع أو منهج نقدي كما فعل الآخرون، وهي النظرة التي تركز على ضرورة التقليل من سطوة الإيقاع الصاخب للأوزان والقوافي، والخروج إلى إيقاعات خفية تصنعها اللغة والحالات النفسية المتقلبة التي يكون عليها الشاعر أثناء إنتاج النص. لهذا يوصف شعر الماغوط بأنه "طرب، لكنه طرب داخلي لا خارجي، يضع الرؤيا مقابل النظم، ولا يقبل أن تموت الرؤيا لتحيا القافية، وأن تموت التجربة ليستقيم الوزن، بل إنه شعر لا يعبأ بكل هذه التقابلات لأن تقابله الأول ألا يموت الداخل ليهرج الخارج."[12] إن الماغوط بذلك يبدو موليا اهتمامه للجوهر أكثر من الأشكال ليس في الشعر وحده، بل في الأمور والقضايا التي عالجتها نصوصه الشعرية والنثرية، لهذا وجدناه في قوله السابق يرفض الانسياق وراء كلام يعتمد تقاليد الطرب ورقص الكلمات، دون أن يصاحب ذلك إثارة ما يهم الإنسان في وجوده، وما يحيط به من المخاطر الناجمة عن المنظومة التي يخضع لها راضيا أو كارها.
وبما أن الماغوط لم يجرب الأوزان والقوافي في أي من القصائد التي كتبها، فإن ذلك يضعنا أمام افتراض عدم قدرته على مثل ذاك البناء الموسيقي الصعب والمقيد في آن، لكننا نفترض أيضا أنه كان ينطلق  من إحساس عميق بأن موسيقى الشعر أكبر وأكثر تنوعا وتشعبا من أن نحصرها في الوزن والقافية، أو ربما ذهب مع أدونيس في أن "موسيقى الشعر لا تخضع للإيقاعات القديمة بل تستجيب لإيقاع التجربة والحياة الجديدة. فهي موسيقى ترتبط باللغة وسحرها وغناها وإيقاعها لا بالعروض."[13]    
إن شعر محمد الماغوط قد يكون أحد الأمثلة الحية للموسيقى الشعرية البعيدة كثيرا عن النمط التقليدي المعروف، لكن إيقاع الموسيقى عنده بارز بشكل لافت بما يوفره من أساليب التقابل والتضاد والتكرار وغيرها، حتى ليدرك القارئ له أنه يبتعد عن النثر الخالص ابتعادا واضحا، وأنه ربما كان النموذج البارز لقصيدة النثر كما تصورتها جماعة " شعر" على الأقل، ما حدا بأمثال علي العلاق إلى الحكم بأن الماغوط " كان أكثر شعراء قصيدة النثر جاذبية وصفاء ونبرة عميقة ومناخاً شعرياً مترابطاً."[14]
ومهما يكن من أمر، فإن الماغوط في مسار شعره يبدو بعيدا عن الجدل والصراع على المفاهيم والمصطلحات والنظريات، فهو لا يسمع إلا إيقاعه هو، ولا يرى إلا صورته المفضلة المنتزعة من حياة الناس، وهكذا صم أذنيه عما يدور في شأن قصيدة النثر ، وآمن بشيء واحد –على ما يبدو- وهو أنه يعبر عن حياة الإنسان العربي من داخله بصدق، لذا ظل يواصل نمط كتابته الذي يطمئن إليه حتى وهو تتكرر، كما يواصل ترسيخ مبدإ شعري يقوم على الحرية في الاختيار، سواء تعلق الأمر بالمفردات أو اللغة أو الصورة أو الموسيقى التي يؤكد الماغوط أن نصوصه لا تخلو منها.
إن المتمعن في أشعار الماغوط – وسط الزوابع التي أثارتها مسألة الوزن والإيقاع وتجنيس النصوص _ يمكن أن يدرك أنه قد ركز على بعض أنواع الإيقاع، ليس من منطلق التعلم والتنظير، وإنما من منطلق العفوية التي ميزت تجربته، ويمكن أيضا أن يدرك أنه لا يعمد إلى عنصر محدد منها، ولا يتكلفه بل ربما لا يقصده أصلا طالما أنه من النوع الذي يريد أن تنجز الأمور بسرعة لينتهي منها.

4-  أنواع الإيقاع في شعر الماغوط: 
سنحاول فيما ياتي من أسطر أن نتوقف عند ثلاثة أنماط من الإيقاع، يمكن القول إنها أنقذت كتاباته من التصنيف النثري البحت، وفرضت على القارئ أن يقر ولو في قرارة نفسه أنه أمام ظاهرة شعرية جديدة، تختلف جوهريا عما ألفه من شعر، ولكنها لا تبتعد عنه ابتعادا كليا، وهي أيقاع التقابل وإيقاع العد ولإيقاع التكرار.
أ‌-                 إيقاع التقابل
قد لا تكفي القراءة الواحدة لإدراك السمة الإيقاعية في قصيدة النثر عند الماغوط، وعليه فإن القراءة المتخصصة واستعداد القارئ للإحساس بأنواع أخرى من الإيقاعات الجديدة المختلفة قد يوصلان إلى تلمس هذا العنصر الهام في قصيدته. ويبدو أن
 وبما أن حياة الماغوط فيها قلق وتقلب وخوف وتمرد، فإن إيقاع التقابل واحد من خياراته الموسيقية، ففي غمرة بشاعة الواقع واختلال موازين الحياة ونظامها، يأتي التقابل ليضعنا أمام الحقائق العارية التي نعرفها أو نجهلها، لكننا في الحالين معا نشعر أننا أمام رسم جديد لمشهد الحياة التي يعيشها الإنسان العربي دون أن يكون اختارها بإرادته، أو كان له رأي في حيثياتها، بل فرضت عليه مثل القدر، فكان له نصيب كثير من شرها، وقلما يطمع بالنزر القليل من خيرها.
وإيقاع التقابل نوع من إيقاع الجملة، تتقابل فيه الجمل أشكال مختلفة، بعضها للتضاد، ويعضها، وبعضها الآخر للتكرار أو للتعداد أو للمقارنة، وقلما يشمل القصيدة كاملة، بل يتواجد غالبا في أحياز معينة، وخاصة في افتتاحيات النصوص، ففي قصيدة (الحصار) مثلا يقول:
دموعي زرقاء
من كثرة ما نظرت إلى السماء وبكيت
دموعي صفراء
من طول ما حلمت بالسنابل الذهبية[15]
ومثل ذلك في قصيدة(الليل):
هناك نحل وهناك أزهار
ومع ذلك فالعلقم يملأ فمي
هناك طُرف وأعراس ومهرجون
ومع ذلك فالنحيب يملأ قلبي[16]
نلاحظ أن إيقاع التقابل تم بين جملتين حملتا نظاما لفظيا شبه متساو، فالسطران الأولان يقابلهما السطران المتبقيان دون أن يكون بينهما تضاد أو تطابق صوتي، فالتقابل هنا يكتفي بالجمع بين طرفين يتساويان في عدد الكلمات، ويتشابهان في الكلمة أو الكلمات الأساسية مثل( دموعي/ من كثرة- من طول/ ما نظرت-ما حلمت)، في المقطع الأول. إن هذه الكلمات لا تشكل في مواقعها إيقاعا وزنيا مضبوطا، ولكنه إيقاع نسبي يدركه القارئ من خلال تموقع الكلمات ونظام تواجدها في المقطع.
وفي قصيدته (بدوي يبحث عن بدوية) نقرأ هذا المقطع:
أه كم أتمنى .. لو أستيقظ ذات صباح
فأرى المقاهي والمدارس والجامعات
مستنقعات وطحالب ساكنة
خياما تنبح حولها الكلاب
لأجد المدن والحدائق والبرلمانات
كثبانا رملية
آبارا ينتشل الأعراب ماءهم منها بالدلاء[17]
وهو يشبه المقطعين السابقين في نظامهما الإيقاعي، فالسطر الثاني إلى الرابع يقابلها الخامس إلى السابع، بالطريقة نفسها التي أشرنا إليها، ولا يعني ذلك أن بقية النص تخلو تماما من الإيقاع، بل قد يتبدل الإيقاع فقط ويتخذ شكلا آخر مما سنوضحه لاحقا، وقد يستمر ليشمل النص بأكمله كما في (الظل والهجير) التي يحمل عنوانها معنى التقابل؛ فالعنوان يرسم ملامح النص ويلخص فكرته، وهي هنا تقسيم المجتمع إلى فئتين من حيث حظهم في الحياة، فيقول:
كل حقول العالم
ضد شفتين صغيرتين
كل شوارع التاريخ
ضد قدمين حافيتين.
==
حبيبتي
هم يسافرون ونحن ننتظر
هم يملكون المشانق
ونحن نملك الأعناق
هم يملكون اللآلئ
ونحن نملك النمش والتواليت
هم يملكون الليل والفجر والعصر والنهار
ونحن نملك الجلد والعظام.
نزرع في الهجير ويأكلون في الظل
أسنانهم بيضاء كالأرز
وأسناننا موحشة كالغابات
صدورهم ناعمة كالحرير
وصدورنا غبراء كساحات الإعدام
إن اختيار الشاعر لهذا الإيقاع يخدم غرضه في إيصال فكرة الظلم والحيف التي تلحق بالضعفاء، والتقابل بهذا الشكل يجعل القارئ أمام مقارنة فاضحة لضخامة الخلل الحاصل في العلاقات الاجتماعية نتيجة لسوء تنظيم استفادة العباد من موارد البلاد، وكأن الشاعر يضع القارئ أمام الأمر الواقع الذي لا يستطيع إنكاره، أو الصورة الحقيقية التي يحب أن يراها لأنه يعايشها.
لكن الماغوط يأبى أن يكون الحظ العاثر دائما لصيقا بالضعفاء، فيستخدم التقابل نفسه ليعيد لهذه الفئة شيئا من الإحساس الإنساني بأسباب قوة ما، فيواصل القول:
ومع ذلك فنحن ملوك العالم:
بيوتهم مغمورة بأوراق المصنفات
وبيوتنا مغمورة بأوراق الخريف
في جيوبهم عناوين الخونة واللصوص
وفي جيوبنا عناوين الرعد والأنهار
هم يملكون النوافذ
ونحن نملك الرياح
هم يملكون السفن
ونحن نملك الأمواج
هم يملكون الأوسمة
ونحن نملك الوحل
هم يملكون الأسوار والشرفات
ونحن نملك الحبال والخناجر[18]
ونلاحظ أن بين المقطعين نفسيهما تقابل، فالأول يظهر الامتياز للفئة القوية مالا أو نفوذا أو سلطة، والثاني يظهره للفئة المستضعفة التي تحاول أن تكون ندا للأولى، حتى وإن كان بالمعنويات أو المبادئ أو بالقوة الخفية التي لا تظهر إلا في الأوقات العصيبة، عندما يشتد الضغط الذي يؤدي إلى الانفجار.
وكثيرا ما نجد هذا النوع من الإيقاع في أعمال الماغوط الشعرية، ولكنه موجود أيضا في تلك التي لم تصنف ضمن خانة الشعر مثل(سياف الزهور) و(البدوي الأحمر)، والتي يعتبرها بعضهم عصية على التجنيس، لأنها تجمع خليطا من (مقالة وخاطرة ونثر شعري وزاوية صحفية)[19]، والحاصل أن هذا الضرب من الإيقاع هو أحدى وسائل الشاعر في التعبير عن اغترابه وتمرده، ورفضه لما هو قائم من زيف ونفاق في التعاملات الاجتماعية والإنسانية في هذه البقعة الكبيرة من الشرق.

ب‌-              إيقاع التعداد:
هذا الإيقاع يعتمد فيه الشاعر على العد؛ أي تعداد الأشياء الكثيرة في تسلسل مطرد، وأكثر ما نجده في مقالاته السياسية وبعض من قصائده، وقد اعتمدها في كتاباته المتأخرة بشكل لافت لعله نتيجة تراكم المآسي على الوطن العربي والإنسان العربي المغلوب على أمره. ويفسر ذلك النبرة الخطابية الحادة التي تميز هذا الإيقاع، بحيث يبدو الشاعر فيه كأنه مهرج في حلقة، أو مجنون في سوق، يجمع بين الأشياء التي لا تجمع، ويعددها في ترادف عجيب، ويمرر خلال ذلك كله رسائله الضمنية بعد أن يكون قد أرهق القارئ وأعياه لا بكثرة الكلام، بل بكثرة التفكير في هذا الكلام الذي لا ينطلق من فراغ.
ويمكن التمثيل في هذا الصدد بقصيدة (النخاس)، التي يتقمص فيها دور نخاس في سوق، لكن بضاعته ليست جواري، بل تشمل ما يباع وما لا يباع من أشياء معنوية، بما فيها (الفتوحات العربية) التي لم تعد تساوي غير (سرير)، وهي علامة دلالية واضحة.
وبعد مقدمة ساخرة يعرف فيها بالبائع العجيب، يدخل في عرض وعد البضاعة، فيقول:
عندي غبار للقرى
رمد للأطفال
وحول للأزقة
وحجارة لصنع التماثيل وقمع المظاهرات
عندي آباء للتذمر
أمهات للحنين
أرصفة لبيع الزهور
وغابات لصنع السفن والقباقيب وسواري الأعلام
عندي ثلج للعصافير
وخريف للغابات
سعال للأزقة
ونوافذ عالية لمناداة الباعة، للاستغاثات.
عندي كل شيء أيها السادة
نسور أعقاب سجائر
نشارة خشب
صفائح فارغة
وعندي.. شعوب
شعوب هادئة وساكنة كالأدغال
يمكن استخدامها
في المقاهي والحروب وأزمات السير.[20]
إن الإيقاع هنا يبدو أكثر تنظيما مما عرفناه في النماذج السابقة، فطريقة العرض هذه جعلت الشاعر يعمد إلى نظام المقطع على نمط كثير من نماذج (شعر التفعيلة)، ولكن في غياب تام للتفعيلة والقافية، فيبدأ كل مقطع بكلمة (عندي) تتبعها مجموعة كلمات تمثل مبيعات مفترضة، وتحتل أربعة أسطر غالبا، الأخير منها أطول من الثلاثة السابقة.
وعلى امتداد التسع عشرة مادة المعروضة في سوق النخاسة هذا، يشير الشاعر إلى ما أصاب الإنسان من إحباط ويأس من تغيير الأوضاع وتحسنها في المنظور القريب، وقد أعطى تتابع هذه الكلمات وقعا صوتيا ملحوظا، إضافة إلى ما يضفيه على شعور القارئ من معان ودلالات بقدر ما هي قاسية، هي منبهات تجاه الوضع الذي لا بد أن يدرك الناس خطورته.
وإذا انتقلنا إلى (عتابا معاصرة) وجدنا الإيقاع نفسه، النص كله معدودات مختلفة يجمها شيء واحد هو علاقته كضعيف بالآخر القوي ، فيقول:
الذين ملؤوا قلبي بالرعب
وراسي بالشيب المبكر
وقدحي بالدموع
وصدري بالسعال
وأرصفتي بالحفاة
وجدراني بالنعوات
وليلي بالأرق
وأحلامي بالكوابيس
==
وحرموني براءتي كطفل
ووقاري كعجوز
وبلاغتي كمتحدث
وصبري كمستمع
وأطياني كأمير
وزاويتي كمتسول
وفراستي كبدوي
ودهشتي كمسافر
وحنيني كعائد
==
ثم أخذوا سيفي كمحارب
وقلمي كشاعر
وريشتي كرسام
وقيثارتي كغجري
وأعادوا لي كل شيء وأنا في طريقي إلى القبر
ماذا أقول لهم أكثر مما يقوله الكمان للعاصفة؟[21]
ففعل العد عند الماغوط، كما يوضحه المثالان السابقان ، وإضافة إلى كونه وسيلة إيقاعية، هو وسيلته للتعبير عن فوضى الأشياء من حوله، فالأمور التي يعدها لا تخضع لأية علاقة ارتباط عادة، فلا شيء يجمع بين النسور وبين أعقاب السجائر ونشارة الخشب على سبيل المثال، إنها أشياء متناثرة مشتتة تشبه إلى حد كبير تشتته الذهني الناتج عن غربته المستمدة من واقع لا يريده، ولا يملك القدرة على استبداله. غير أن ذلك لا يعني أن هذا الكم من الكلمات اعتباطي، بل هو مقصود جدا ذلك أن الماغوط يعول–كما يبدو- على ما تحدثه تلك الكلمات المعدودة المختارة من وقع معنوي قبل الوقع الحسي، لذا يبدو الثاني ثانويا إلى حد ما مقارنة بالأول، وإن كانت طريقة العد قد وفرت له حدا أدنى من البروز يحافظ به الشاعر على الخيط الرفيع الفاصل في نظر النقاد بين كتاباته وبين النثر الخالص، ويؤكد الماغوط ذلك بقوله:" الموسيقى في أشعاري موجودة في متن النص، وعلاقة الكلمات بعضها ببعض كالحب الحرام، أي حركة تفسر على نحو ما."[22]
إن فعل العد إذن قد فسح المجال للكلمة بأن تجد لها مكانا في المتن، وأن تكتسب معنى ما يمليه موقعها منه، رافضا ترفع الشعر عن كلمات وقبوله أخرى، شرط أن يخضع معناها للسياق العام الذي تدور فيه مجموع الكلمات المشكلة للنص.
ج‌-             إيقاع التكرار:
من المؤكد أن المقصود بالتكرار هنا ليس الذي يعتمد على الوحدات المتساوية التي نسميها التفعيلة سواء في بناء البيت أو في بناء السطر، ولكننا نرمي إلى نوع آخر من التكرار الذي يعتمد على اللفظة طورا، وعلى الجملة طورا آخر، وما يترك تكرارهما على نمط معين من إيقاع، ولكنه لا يتصف بالدوام والاستمرارية بل بالانقطاع والتبدل.
وإذا كان التكرار أساس كل إيقاع مهما اختلفت صوره، فإن أهميته لا تتوقف عند المجال الصوتي، كما بينا ذلك في الحديث عن النوعين السابقين، بل إن الامتداد المعنوي والشعوري لا بد أن يلاحظ فيه خصوصا إذا كان ميدان الكتابة يغمره الشكوى والتذمر، والثورة على كل شيء تقريبا في واقع الناس المزري في منظور فئة من الشعراء.
ويصاحب التكرار الظواهر الإيقاعية المختلفة مثل التقابل والتعداد والتضاد والنداء وغيرها مصاحبة لصيقة، سواء في اعتماده على تكرار اللفظة المفردة ، أو تكرار مجموعة مفردات أو جملة بذاتها، ويمكن التمثيل لذلك، بمجموعة من قصائد الماغوط التي نجحت في نظر النقاد في أن تشكل لنفسها إيقاعها الخاص.
  ففي قصيدة(في يوم غائم)[23] قول الشاعر:
لا أريد ان أشكر
ولا أريد ان أبتسم
سأضرب المائدة بسوطي
وأصفع البواب خلفي بجنون
أريد أن أغني وأهاجر
أن أنهب وأهاجر وأثور
هذا من حقي
لقد ولدت حرا كالآخرين
بأصابع كاملة.. وأضلاع كاملة
ولكنني لن أموت
دون أن أغرق العالم بدموعي
وأقذف السفن بقدمي كالحصى.
==
ولدت عاريا ، وشببت عاريا
كالرمح
كالإنسان البدائي
سأنزع جلود الآخرين وأرتديها
سأنزع جلود السحب والأزهار والعصافير وأرتديها
محتميا بالضباب والأنين
==
كل امرأة في الطريق هي لي
كل نهد كل سرير
هو لي .. لعائلتي.. لرفاقي الجائعين
طالما لنا شفاه وأصابع كالآخرين
ودماء فوارة كالآخرين
يجب أن نأكل ونحب ونهجر
ونقذف فضلات الأثذاء خلف ظهورنا.
==
ولكنني وأنا أحتضر
وأنا أسبح في قبري كالمحراث
سأموت وأنا أتثاءب
وأنا أشتم
وأنا أهرج
وأنا أبكي..
إن الإيقاع في هذه المقاطع ينبني على أساس تكرار الكلمة، وعلى تكرار الجملة لكن دون أن نحتفظ الجملة بكامل عناصرها وحرفيتها؛ ففي المقطع الأول تكرار لكلمة(أريد) منفية تارة وتارة مثبتة، ولكن السطرين الأولين يشكلان أيضا ما يشبه تكرار الجملة على الرغم من اختلاف الكلمتين الأخيرتين من كل سطر، فشعور الشاعر في السطرين واحد وهو كاف لتوحيدهما تحت معنى واحد وإيقاع واحد.
والطريقة نفسها يعتمدها في المقطع الثاني، بتكراره للكلمات:(ولدت، وكاف التشبيه، وسأنزع وأرتديها)، ويتنوع توزيع التكرار رغم قصر المقطع؛ فكلمة (ولدت) تقع في الجزء الثاني من الجملة في السطر الأول، و(كاف التشبيه) تقع في الجز الأول من الكلمتين في السطرين المواليين، وكلمتا(سأنزع وأرتديها)، تضمان معا ما بينهما من كلمات.
وفي المقطع الموالي يكتفي بتوزيعين من الثلاثة التي سبق ذكرها؛ فكلمتا(كل ولام الحيازة) تتكرران ثلاث مرات، في أول الكلام وفي آخره، بينما كلمة(كالآخرين) فمرتين في آخر الكلام. أما المقطع الأخير فيكتفي بتكرار كلمة واحدة هي (أنا) ست مرات في ستة أسطر، فيهيمن الضمير بذلك على الانتباه، ويختم الكلام كله.
 ونخلص من ذلك إلى جملة استنتاجات،هي:
-       مقارنة مع النوعين الأولين من الإيقاع، يعد التكرار أكثرها صخبا وبروزا في قصيدة التثر، وبالتالي فإن هذه القصيدة أكثر إيقاعية من كثير من قصائده الأخرى، لكثرة الكلمات المكررة واختلاف مواقعها في النص.
-       إن بروز الإيقاع جاء لضرورة فنية، ذلك أن الشحنة العاطفية في النص كبيرة، وحجم الانفعال واضح سواء من خلال محاولة فرض الإرادة وما صاحبها من خشونة في الخطاب، أو من فعل الهيمنة في الحيازة الذي لخصته الكلمتان (كل- لي)، كل ذلك في إطار ذاتية تحاول ألا تستسلم للموت إلا على الصورة التي تعبر عن مأساته.
إن الإيقاع غير متكلف ولا مستهدف في ذاته، ذلك أنه لا يعم النص كله، بل نجد أسطرا لا يكاد الإيقاع يلاحظ أو يميز فيها، خصوصا في لغة بسيطة هي أقرب إلى لغة العامة في حياتهم اليومية، فقد شكلته الكلمات التي تكررت على نحو يخضعها للحالة النفسية والشعورية للشاعر، وليس على نحو تفرضه أنظمة وقوانين.
وهذا النمط من التكرار يصاحب عادة ظاهرة النداء عند الماغوط، وقد رأينا في مبحث سابق أن القصيدة كلها قد ترد نداءات تتكرر فيها أداة واحدة هي(يا) أو منادى على شكل (أيها) محذوف الأداة، أما دور النداء في إيقاع القصيدة فواضح للعيان، إذ إن الشاعر يحرص على بناء النداءات وفق نظام من تشابه الكلمات وزنا أو تقاربها على الأقل؟ ليس القصد أنه يقيم للوزن العروضي أهمية، ولكنه الوزن الذي يأتي من تكرار النداء مصحوبا بتجاور الكلمات المتناسقة على النمط الذي رأيناه آنفا.
ومثال ذلك قوله في ( دروس في اللغة الصينية)[24]:
 أيتها الأرصفة..
سأريحك من خطواتي
أيتها الجدران ..
سأريحك من ظلي
أيتها السنابل ..
سأريحك من أسناني
أيها الأطباء ..
سأريحكم من سعالي
أيها النائمون..
سأريحكم من غنائي.
و الشيء نفسه في (غيوم)[25]:
أيها الحزن
أيها الفرح
أيها الربيع
أيها الخريف
أيتها الفصول
أيها الوحل
أيها الشرق
أيها الغرب
ليس هناك أزمة إيمان
بل أزمة جهات!
على أيها يتةجه المفلس أو الخائف أو الضائع
أيها الشعر الرضيع
متى تشب عن الطوق؟
وتصير دينا؟
      فكل كلمة في سلسلة النداءات هذه لها ما يقابلها ويجانسها؛ فالاسم يقابل الاسم والفعل يقابل الفعل والحرف يقابل الحرف وقل مثل ذلك عن الصيغ اللغوية الأخرى. ففي غياب الوزن العروضي، يبحث شاعر قصيدة النثر عن البديل ممثلا في التوازي والسجع والجناس والتكرار وقياس الأسطر، وكل ذلك يقوده النداء الذي هو الصوت الأول المكرر في مثل هذه التراكيب. 
ويحدث التكرار هذا في سياق العد أيضا، كما في قوله:
بلى .. بلى
تذكرتها
دمشق المناسف والاهراءات
دمشق البيضة المسلوقة
والرغيف المطوي بعناية في حقيبة المدرسة
دمشق الخيول الجامحة
والسفن التي تسد وجه الأفق
دمشق الغبار
والدراجة المسنودة على الحائط
دمشق النجوم والمشاعل المضاءة على ذرى الأورال
دمشق الليل.. والقنديل المطفأ بالشفتين
دمشق الحداء والخناجر المسمومة برايات كسرى
دمشق التأتأة
والبصمات الممسوحة بالركب وقوائم الطاولات
دمشق المنتصبة على شواطئ الأطلسي
دمشق المحدودبة أمام الصنبور
دمشق الوحل .. النجوم.. فقاقيع الحمى
أشلاء الثوار.
إن عد سمات دمشق قديما وحديثا، كان يمكن أن يحدث دون تكرار اسم المدينة، لكن الشاعر يملك في نفسه أشجانا يريد التنفيس عنها، فإبراز اسم دمشق بهذا الشكل المتكرر يكشف عن مخزون ما يعانيه في ذمها وحبها على حد سواء، وقد عبر عن ذلك بأن جعل كل طاقته الانتقامية المفترضة مصوبة ضدها، لكنها سرعان ما تفتر في النهاية أمام حبها ومكانتها عنده. 
أما تكرار الجمل فقليل في شعره مقارنة بتكرار الكلمات أو تكرار التعداد، فالماغوط قلما يكرر الجمل نفسها دون أن يحدث في أحدهما تغييرا معينا، مما يخرج هذا النوع من دائرة التكرار إلى دائرة التقابل الذي رأيناه.
وتمثيلا لتكرار الجملة نستحضر قوله مخاطبا بدر شاكر السياب:
ثم تسمع صوتا يصرخ من أعماق الليل:
لا أحد في البيت
لا أحد في الطريق
لا احد في العالم
ثم تلوي عنقك وتمضي
بين وحول آسنة
وأبواب أغلقت بقوة
حتى تساقط الكلس عن جدرانها
وأنت واثق أن المستقبل
يغص بآلاف الليالي الموحشة
والأصوات التي تصرخ:
لا أحد في البيت
لا أحد في الطريق
لا أحد في العالم
إن التكرار الحاصل على شكل لازمة تتكون من ثلاث جمل، يضفي على النص إيقاعا موسيقيا ملحوظا، وهو إيقاع يتناسب مع الخطى البطيئة التي يتصور زميله الشاعر يمشيها وهو في لحظات الوهن والضعف والاستسلام للموت، وهو يجعلها ضمن إعادة الصوت في سياق سردي يثبت مرة أخرى أن غرضها الدلالي أولى من وقعها الصوتي.
ونجد تكرار الجملة أيضا في قصيدة (الرجل الميت)[26]، حين يكرر جملة النداء (يا قلبي الجريح الخائن) في بداية كل مقطع من المقاطع الثلاثة الأخيرة، ورغم تباعد الجمل المكررة إلا أن تموقعها على رأس المقطع يمنح التعبير إيقاعا لا ينكر، لكنه ليس بالقوة التي تحدتها عندما تتتابع، وهو الذي لا يحدث غالبا في قصائد الماغوط.
وفيما عدا هذه النماذج القليلة من إيقاع الجملة، يطغى إيقاع التقابل المعتمد على جملة كلمات مكررة  كالذي نجده في قصيدة (الواشي)[27] مثلا:
وفي اليوم التالي
عاد أحدهما مستعجلا تحت المطر
أما الثاني
فكان يسبح بدمه في أحد أقبية التعذيب
لقد تذكرت:
كان أحدهما يتحدث أكثر من اللازم
وكان الآخر يصغي أكثر من اللازم.
إن السياق هنا يمنع تكرار الجملة في السطرين الأخيرين، على الرغم من اشتراكهما في عدد من الكلمات، وكون المتحدث عنهما يتلازمان كشخص وظله، ويفعلان معا الأشياء نفسها، لكن أحدهما واش والآخر ضحيته، لهذا جاء السطران الأخيران يفترقان في أهم لفظتين في سياق المقطع، وهما ( يتحدث – يصغي).

خــــاتمة:
يمكننا في ختام هذه الدراسة أن نشير إلى الاستنتاجات الآتية:
-        لقد شكلت خاصية النظام معضلة في فكر الماغوط نتيجة لوقوعه تحت ضغط اغترابه، ليس فقط على مستوى صوره والمعاني التي يعبر عنها، بل أيضا على مستوى النظام الإيقاعي الذي اعتمده؛ فكأن الوزن عنده مرتبط بمنظومة الخضوع للقواعد الظالمة، أو القواعد المثبطة التي تعرقل سير الأحاسيس المتمردة على واقع سيء.
-        يصطنع الماغوط لأشعاره موسيقاها الخاصة التي لا تشبه حتى موسيقى الشعر لدى زملائه الذين تمردوا بدورهم على الوزن والقافية. وهكذا اعتمد الماغوط على إيقاع التكرار والتقابل والتعداد محاولا أن يحملها شحنة  الانفعالات التي تعتريه في لحظة الكتابة؛ على أنه في كل ذلك لا يعطي للإيقاع أولوية أو اهتماما أساسيا بقدر ما يهتم بالمعاني التي تحمل رؤيته إلى الحياة من حوله.
-        يكشف هذا النوع من الإيقاع عند الماغوط رغبته في تذليل الفارق بين الشعر والنثر، أو لنقل بين الأنواع الأدبية المختلفة في تسمياتها المتحدة في هدفها؛ فبغض النظر عن طول النص أو قصره تسبح نصوص الماغوط في فضاء تعبيري واحد فيه نصيب من الإيقاع المرتبط أساسا بالوضع النفسي المزمن الذي صاحب الشاعر فترة طويلة، لهذا تبدو كثير من قصائده متشابهة وكأنها كتبت في لحظة واحدة.
-        إن إيقاع قصيدة النثر عند الماغوط مستقى من التعبير اليومي، من حياة الناس وتعاملاتهم وحديثهم، تلك الحياة التي تقرع فيها أصوات الأحذية في الشوارع، وأصوات العواصف في العراء البارد، ونداءات الباعة في الأسواق، وآهات المظلومين في السجون آذان الشاعر فيعكسها موسيقى خافتة حزينة، كأنما يفسح المجال أمام ما هو أهم من الصخب والطرب وهو الفكرة عندما تصطبغ بألوان الواقع المزري، وترسم خطوطها الفنية على لوحة النص.
إحالات:




هناك تعليق واحد: