الاثنين، 18 سبتمبر 2017

معاملة الأجنبي بمنطقة الساورة[1] في القرن 19 (قراءة في مذكرات الرحالة الألماني غيرهارد رولفس)

معاملة الأجنبي بمنطقة الساورة[1] في القرن 19
(قراءة في مذكرات الرحالة الألماني غيرهارد رولفس)
د. رمضان حينوني
أستاذ محاضر بالمركز الجامعي لتامنغست/ الجزائر
عضو
مخبر الموروث العلمي والثقافي لمنطقة نمنراست/ الجزائر
ramdanne@gmail.com

ملخص:
       يطرح البحث إشكالية أساسية ممثله في كيفية تعامل أهالي الصحراء الجزائرية مع الرحالة الأوروبيين في زمن خيم فيه الاستعمار بصورته القبيحة على أذهان الناس، بالنظر إلى كونهم وقعوا بين موقفين يتطلب كل منهما جهدا ليصمد أمام الآخر؛ الأول هو الاحتكام إلى العادات والأعراف الأصيلة التي تستوجب إكرام الضيف بصرف النظر عن هويته ووجهته، على عادة العرب قديما، والثاني هو الاشتباه في أن الرجل الأبيض لا يمثل في المخيال المحلي وقتذاك إلا المحتل أو الكافر -بالمفهوم الشعبي- الذي يسعى إلى الاستيلاء على الأرض أو إفساد الدين.
      ولقد أبان البحث عن جوانب من حياه إنسان القرن التاسع عشر في الجزائر، خصوصا في منطقة صحراوية نائية تجذرت بها العادات العربية الإسلامية إلى حد المحافظة على سلامة رحالة أحاطت به الشبهات الكفيلة بقتله، ما يعكس احتكام المجتمع وقتئذ إلى نوع من النظام المجتمعي الذي يؤدي فيه شيخ الزاوية أو القبيلة دور الضابط الصارم الذي تحترم كلمته وقراراته.
     وتكمن أهمية الدراسة في أنها تتخذ من مذكرات أجنبي مادة للدراسة، ليس لمجرد كونه أجنبيا، بل لأن الكتابات الغربية في هذه الفترة استطاعت أن تكون شاهدة على العصر، في زمن توجهت فيه جهود علماء المنطقة إلى التأليف في العلوم اللغوية والدينية، وأهملت كثيرا جوانب الحياة الاجتماعية.
الكلمات المفتاحية:الصحراء، الساورة، الجزائر، الرحالة الأوروبيون، معاملة الأجنبي، الاستعمار الفرنسي، الكرم، السلب، الأمان.
=======

مقدمة:
لم تقتصر الرغبة في استكشاف عمق الصحراء الكبرى على الفرنسيين والبريطانيين ومن خاضت بلدانهم حملات استعمارية على القارة الإفريقية، بل امتدت إلى غيرهم من الذين دفعهم الفضول أو البحث العلمي إلى المغامرة بحياتهم في سبيل الوصول إلى هذه الشعوب الغريبة عنهم لونا وثقافة ونمط حياة. وبخاصة أنهم يدركون تحفظ سكانها إزاء الرجل الأبيض الأوروبي الذي ارتبط ذكره بالاحتلال والحروب والعدوان، سعيا إلى تحقيق مآربه على حساب الشعوب الضعيفة؛ ولقد وُجدتْ في كثير من كتابات الرحالة الأوروبيين مادة خصبة تعرّف ببعض جوانب الحياة الاجتماعية والثقافية في البلاد العربية كما رآها هؤلاء، وتسمح للباحث بمقارنتها مع ما عرفه أبناؤها وتناقلته أجيالهم، وخصوصا ما تعلق بالعادات والتقاليد ذات المرجعية الإسلامية مثل الكرم والضيافة وطلب الأمان والصحبة وغيرها.
وتعد مذكرات غيرهارد رولفس وثيقة مهمة في هذا الباب، تستحق وقفة وصفية فاحصة، وبخاصة ممن يعرف المسار الجغرافي الذي قطعته الرحلة وطبيعة تركيبته الاجتماعية وبنيته الثقافية، ومهما تكن القراءة التي يتوصل إليها الرحالة الأورويبون والمستشرقون الغربيون عموما في نقلهم لما رأوه وعاشوه في فترات رحلاتهم، فإنه من الواجب التعامل معها باهتمام كبير، سواء من المؤيدين ما جاء فيها أو المخالفين، إذ هي موجهة إلى القارئ الأوروبي بدرجة أولى، وعلى الذين ينتمون إلى هذه البلدان والمناطق التي غطتها هذه الكتابات- أن يعملوا على تمحيصها وتصحيح بعض ما يخطئ هؤلاء في قراءته، مع ضرورة الاعتراف بأن فضل هذه الكتابات لا ينكر، فقد كانت شاهدة على مراحل زمنية قديمة، ربما لا نجد من الكتاب المحليين من نقل أحداثها وبعض ما ميزها على الصعيد الاجتماعي، وحتى إن وجدوا فإن الحقيقة لا تتضح إلا بالكشف عن جميع أوجه الشيء المدروس ومقارنته بموضوعية وحكمة.
التعريف بغيرهارد رولفس:
هو فريدريش غيرهارد رولفس (Friedrich Gerhard Rohlfs) تعرفه موسوعة ويكيبيديا على أنه جغرافي ومستكشف وكاتب ومغامر ألماني من مواليد 14 أبريل عام 1831م، بالقرب من مدينة بريمن. عضو في أكاديمية بافاريا للعلوم والإنسانيات (Bavarian Academy of Sciences and Humanities). بدأ شبابه جنديا في سن السادسة عشر، ثم توجه إلى دراسة الطب فحصل على دكتوراه، لكن ميوله إلى المغامرة جعلته يعمل طبيبا في صفوف القوات الأجنبية خارج الحدود بعد أن وصل فرنسا عبر سويسرا. قضى ست سنوات في الجزائر سمحت له بتعلم العربية والتعرف على عادات وتقاليد الأهالي.[2]
في عام 1855، قدمت الجمعية الجغرافية في باريس جائزة خاصة لمن يستكشف الطريق الرابط بين الجزائر والسنيغال أو العكس، عبر تمبكتو. فحلم رولفس أن يكون هو المستكشف، بعد سنواته الست في الجزائر توجه إلى المغرب الأقصى كطبيب عام 1861، واستقر في شمال البلاد، وتمكن من الاختلاط بالطبقة الراقية، التي وفرت له الحماية، وسمحت له بالتعرف على عادات وتقاليد المجتمع. عام 1862 غادر طنجة في أولى رحلاته باتجاه درعة وتافيلالت، لكن محاولة اغتيال تعرض لها في أعالي قير (Guir) أجبرته على التخلي عنها. في عام 1864 وصل إلى الجنوب الوهراني، غير أن انتفاضة أولاد سيدي الشيخ أحبطت خططه، فقرر بعدها أن يبدأ استكشاف بلاد الساورة وقورارة وتوات وتيديكلت، إذ كان أول أوروبي يصل عين صالح، لكنه لم يتمكن من عبور الصحراء عبر الهقار، فانكشف أمره وشعر بالخطر على حياته ما اضطره إلى الابتعاد عن المنطقة، فاتجه إلى ناحية الشرق ليصل غدامس ثم طرابلس الغرب في الأراضي الليبية، لتنتهي بذلك رحلته الأولى[3] التي تمكن فيها من الحصول على معلومات قيمة، حول بساتين النخيل، والقصور والسكان لم تكن معلومة من قبل. منحته الجمعية الجغرافية في باريس ميدالية ذهبية.[4]
توفي رولفس في 2 جوان (يونيو) عام 1896، تاركا مذكراته المفصلة التي ترجمها إلى الفرنسية جاك ديبي (Jacques Debetz)[5] بعنوان:" رحلات واكتشافات في الصحراءVoyages et explorations au Sahara 1861-1864) ).
استكشاف الصحراء بين الرغبة والخوف:
تاريخ الاستكشاف قديم جدا عند شعوب الأرض قاطبة، ولقد سجل التاريخ أن الرحالة المسلمين قد برزوا في هذا النشاط لدوافع شتى، وخدموا بنصوصهم التي أرخت لتلك الرحلات علوما شتى مثل التاريخ والجغرافيا والأدب من خلال ما برعوا فيه من تصوير لأحوال الناس والعمران والحروب وغيرها من مستلزمات الإنسان.
أما الأوروبيون فقد دُفع بعضهم إلى اتخاذ الاستكشاف ذريعة للتمهيد للحملات الاستعمارية وجمع المعلومات الكافية للسيطرة على الأرض الغنية بعناصرها الطبيعية والتجارية، وهؤلاء في الغالب هم رحالة القرن الثامن عشر والتاسع عشر الذين اختبأوا خلف أغراض شتى ليخدموا جهات عسكرية أو حكومية معينة. كما سكن بعضهم الآخر حبُّ كشف غموض الصحراء الكبرى والوقوف على عناصرها الساحرة وهؤلاء عادة من رحالة الفترة الحديثة التي شهدت استقلال دول المنطقة، واتضاح حدودها الجغرافية.   
ولقد كانت تلك الرحلات حتى عهد قريب تتم على ظهور الجمال وبصحبة تجار القوافل، في صحراء مليئة بالمخاطر البشرية والطبيعية، فأطماع قطاع الطرق والأعداء في تجارة الغرباء تهدد رحلات هؤلاء العلماء والباحثين الذين يصحبون التجار؛ ما دفع السلطات في بعض البلاد الحريصة على سلامة التجارة إلى توفير الأمن للقوافل بشتى الطرق منها تخصيص فرق عسكرية صغيرة أو كبيرة في نقاط جغرافية معينة تسهر على حراسة القوافل وضمان سلامتها.[6]
هذا ما جعل رحلات هؤلاء الأوروبيين نزهة واستجماما ومتعة أحيانا، وتعبا وحصاد متاعب في أحيان كثيرة، يضاف إلى ذلك تربص الموت بهم لأول وشاية أو كيد من حاسد، فإن لم يكن الموت فالسجن والتنكيل، وما قصة ليون الإفريقي[7] (1494-1554) إلا مثال على ذلك.
 ولم يكن ذلك ليغيب عن بال رولفس، الذي تزامنت رحلته مع بداية الاحتلال الفرنسي للجزائر، والحملات العنيفة التي قام بها في ربوع هذا الوطن الشاسع للسيطرة على أجزائه المترامية؛ فكل أوروبي هو في حكم المحتل عند عموم الأهالي، وعليه فإنه كان يعلم لا شك بأن حياته ستكون في خطر، إلا إذا اهتدى إلى الحيل التي توفر له قدرا من الحماية حتى الوصول إلى غايته.
الحيلة مدخلا للمغامرة:
صرح رولفس في مذكراته بأنه منافق، وأن التظاهر بالإسلام أضمن له خوفا من بطش الأهالي به في حال معرفتهم بنواياه، وقد فعل ذلك مذ كان بتفيلالت، فقال:"... وحتى لا يشك مسلمو البلد في مسيحيتي، وأنني بحق على دينهم الإسلام، اتجهت صوب ضريح مولاي على الشريف"[8]، ومعلوم أن زيارة الضريح في بيئة متدينة تقليديا كمنطقة تفيلالت أو الساورة أو غيرهما من البلاد هي دلالة صريحة على الإسلام عند شعب بسيط يأخذ بالظاهر ويحسن الظن، وخصوصا إذا كانت في طقوسه الشعبية المعروفة من تمسح وتقبيل ووضع شيء من النقود في موضع خاص.
ويزيد رولفس في التماس الحيلة لنفسه عندما يدعي نسبا ليس له، فيقول:" من أجل الحفاظ على سلامتي وعدم افتضاح أمر نفاقي ، فقد ادعيت منذ مقامي بقصر إقلي أنني عباسي هاشمي قرشي النسب من نسل العباس بن عبد المطلب عم رسول الله محمد، وعلى قدر هذا الادعاء كان استقبال الناس بهذه البلاد لي على الرغم من أن المثبت في رسائل التوصية بخصوصي أنني مصطفى الألماني (النمسي)."[9]
وإذا كان الذين اطلعوا على رسائل التوصية تلك لم يدققوا في هوية رولفس، لسبب أو لآخر، ولم يطرحوا أسئلة حول حقيقته، فإن طبيبا تلمسانيا كان يشك في هويته، و"يشي به عند شيخ زاوية كرزاز، ويشيع عنه أنه جاسوس فرنسي، فقد كان يفتش في أغراضه أثناء غيابه ويقول للمرابطين إن هذه الأغراض لا يمتلكها إلا مسيحي."[10] ويمكن الاعتقاد أن هذا الطبيب إنما كان يرغب في الاستيلاء على أغراضه الثمينة أكثر من إرادته الكشف عن هويته وإثبات مسيحيته، ذلك أن كونه ذا ملامح أوروبية لا يطعن في إسلامه عند الأهالي الذين يعلمون أن الإسلام يساوي بين أبنائه دون نظر إلى عرق أو ماض، وعلى الرغم من ثقل هذه التهمة، فإن الشيخ ظل لفترة معينة يصدق رولفس ويحسن إليه، ثقة بكونه مسلما. وهو ما يعطي الانطباع بأن سكان هذه المنطقة من الأخلاق العالية بحيث إذا أمَّنوا شخصا على حياته، لا يرجعون عن ذلك ولو في ظل وجود شكوك لا ترقى إلى درجة اليقين.
وفي مقابل ادعائه الإسلام، كشف رولفس في مذكراته عن عقيدة آريانية[11] أو قريبة من ذلك كان يؤمن بها، لو علمها أهالي الساورة وقتئذ لما بقي بينهم حيا، فقد كانت فيه عنصرية متجذرة لعلها شبيهة بتلك التي جسدها الفكر النازي فيما بعد عندما نادى بسيادة الجنس الآري وإبعاد الأجناس الأخرى أو إبادتها. حيث يقول:" فالذي يتحتم على الفرنسيين فعله منذ مدة خلت هو ما فعله الإنجليز بأمريكا الشمالية مع الهنود الحمر، وهو كيفية إلجائهم إلى خلف البلاد .. قد يُرى ذلك تحاملا وتصرفا بربريا وضد قواعد وأسس الحضارة في هذا العصر، والحقيقة أن القريب من حقيقة الأمر يتجلى له الأمر بخلاف من هو مُبعد عنه. ولهذا فإنه من مصلحة الإنسانية العامة يتحتم على بعض الشعوب المتأخرة فسح محلها للغير الذي يفوقها حضارة "[12]. وفي موطن آخر ينصح الفرنسيين بضرورة احتلال منطقة الساورة بكاملها بحجة أن هذه البلاد تحاك بها المؤامرات والفتن ضد الفرنسيين! ثم يؤكد أن فرنسا لن تنعم بالأمان والاستقرار في عمالة وهران إذا لم تقم بذلك.[13] ولعل ذلك ما حدث فعلا بعد ذلك.
إن تصريحا كهذا مثبتا في مذكرة يعلم صاحبها أنها موجهة للقراءة والاطلاع لدليل على أن رحلة رولفس ربما لم تكن من أجل الحصول على جائزة الجمعية الجغرافية المغرية فحسب، بل كانت أيضا مهمة غرضها إنجاز تقرير عن أوضاع المنطقة اجتماعيا وثقافيا، قد تستفيد منها القوى الاستعمارية التي كانت في أوج شراستها في هذه الفترة.
رولفس ومظاهر السلب في الصحراء:
من العادات الصحراوية التي نقل إلينا رولفس جوانب منها نجد سلب الأشخاص والقوافل المتاع والأغراض، يقوم بها أفراد وجماعات تستغل ضعف المسافرين وانقطاعهم في البراري. وعادة السلب قديمة عند العرب وغيرهم ممن شهدوا حياة البداوة والحل والترحال، وبخاصة في الأزمنة التي تكون فيها ظروف المعيشة صعبة، حتى غدا " الغزو وسيلة مشروعة لكسب الرزق، وبذلك أصبحت الصحراء ميدانا فسيحا يقاتل فيه الناس بعضهم بعضا"[14]، لا يمنعهم عن ذلك أحيانا قرابة دم أو سابق تعامل، فكيف إذا كانت الضحية أجنبيا غريبا كهذا الرحالة الذي أدرك هذه الحقيقة. وعبر عنها عندما أعرض عن التنقل يوما من كرزاز إلى الزاوية الكبيرة البعيدة بنحو ساعة مشيا على الأقدام، إذ يقول:" بلغني أن الأجانب يًسلبون بهذه البلاد ، ومما زاد الناس غرابة بشأني ها هنا أن كيف وصلت إلى هذه البلاد في رحلتي هذه سالما دون سلبي من قطاع الطرق إلى حد الساعة.. إنها بحق معجزة.." [15]
ولقد شكل السلب عند رولفس هاجسا حقيقيا، بالنظر إلى اعتزامه قطع مسافة طويلة تمتد من الجنوب الشرقي المغربي إلى بلاد جنوب الصحراء، وكل متاع يحوزه ضروري ومهم، وتعرضه للسلب قد يعرضه للأذى أو الموت إما جوعا أو قتلا إذا حاول الدفاع عن أغراضه. وقد بدأ هذا الهاجس عندما كان في المغرب في منطلق رحلته، إذ يقول: " وصلتنا أخبار تقول إن عصابة لصوص من آيت واحليل من آيت عطا قد عزمت على سلبنا وقطع طريقنا. ثم بعثت إلينا هذه الليلة نفسها تعليمة تأمر بأن نشيع الخبر بأن وجهتنا هي وادي قير عبر مقاطعة الغرفة. وهو الطريق الأقصر مسافة. بقينا في هذا الدوار يومنا الموالي مع كونه فقيرا جدا بسبب سلب عرب حميان الخاضعين تحت الحكومة الفرنسية [بالجزائر]له السنة الماضية..."[16]
ويذكر رولفس القبائل التي ينتمي إليها قطاع الطرق بشكل إلحاحي متكرر، ما يعني أنه متأكد من الأمر وعارف بخارطة هذا النشاط في المناطق التي يمكث فيها فترة كافية من الزمن. فأهالي قصر بوعنان على سبيل المثال هم أصحاب هذا الاختصاص بحسب رواياته، فقد سلبوه وعرّضوه للخطر في رحلة سابقة، يقول عن ذلك:" وصلنا الساعة السادسة إلى دوار أولاد بوعنان، أين عادت إليَّ أتعابي ومشاقي مجددا رغم الإقامة المريحة بهذا الدوار، لكنني رفضت الإقامة به لأن أهله هم إخوة أهالي قصر بوعنان الذين استباحوا مالي منذ سنتين، وآذوني حتى كدت أموت"[17]. غير أن هذه الذكرى الأليمة في ذاكرة رولفس لم تُثْنه عن المضي في مهمته، رغم كونها مصدر قلقه، فهو يكرر الحادثة في موطن آخر قائلا:" علمت أن أولاد بوعنان من ذوي منيع قد سرقوا كل مؤونة سفري من تمر ودقيق وقمح وسكر، وعدة أغراض صغيرة كانت بحوزتي، الأمر الذي اضطرني إلى أن أطلب ضيافة مرابطي زاوية كرزاز."[18] ففي كل مرة كان يلوذ بالأقوياء لحمايته على شاكلة شيوخ الزوايا وكبار القبائل، وهو أمر مألوف طبيعي.
 ولا يبدو رولفس مدعيا في نقله لهذه الحقائق، بالنظر إلى أن الصورة السلبية التي رسمها لهذه الفئة من دوي منيع قد قابلها بصورة أخرى مغايرة لأبناء عمومتهم أولاد سليمان الذين أحسنوا وفادته وأكرموه عندما نزل بديارهم. بل إنه لاحظ أن الفئة السالبة لا تحظى بالمحبة والرضا عند بني جلدتهم، إذ:" يعاملهم إخوانهم في الدين بكونهم أناسا مخادعين وسراقا ويحلفون زورا..."[19] وهذه المقابلة في واقع الأمر دليل على أن الخير أو الشر ليسا طبعا ثابتا في أية مجموعة بشرية. 
وإضافة إلى أولاد بوعنان، يحدثنا رولفس عن قبيلتين أخريين احترفتا هذه العادة، يتعلق الأمر بالعطاونة والغنانمة اللتين" اشتهرتا في كل بلاد الصحراء بقطع الطريق والنهب والسلب، وقد سبق أن حُذّرت منهما عندما كنت بوادي درعة في رحلتي الأولى؛ ففي ببلاد إقلي حاليا يوجد قبر رجل شريف من بلاد وزان بالمغرب لقي حتفه على أيدي رجال القبيلتين... وهو خير شاهد على سوء صنيع هؤلاء العرب بعابري السبل ببلادهم."[20]
ويضرب رولفس المجموعتين إحداهما بالأخرى بطريقة ساخرة فيقول: "يقول أولاد بوعنان من ذوي منيع عن الغنانمة والعطاونة: إذا جاءهم رسول الله نفسه فإنهم يسلبونه ويقطعون طريقه. لكن أجيب بلساني أولاد بوعنان قائلا: وأنتم لو حل بينكم الرب نفسه، فإنكم تقتلونه ".[21] 
ورغم هذه الصورة القاتمة التي يرسمها رولفس عن الغنانمة أو الغناميين، فقد أتيح له أن يكون برفقة غناميين أثناء خروجه من كرزاز باتجاه توات، ويذكر ذلك قائلا:" رجع الرجلان الغناميان اللذان كانا في رفقتنا إلى كرزاز لإخبار الناس هناك بسلامة سفرنا ، وقد أعطيت لكل واحد منهما مثقالا أو 2,5 فرنك، وهو بالطبع مبلغ لا بأس به بالنسبة للناس هاهنا، لأنهما تعاملا معي بلطف، وحتى أشجعهما مستقبلا لقيادة المسافرين إلى مأمنهم  عوض سلبهم ونهبهم."[22] ما يدعم الاستنتاج السابق القائل: إن السلب والنهب وإن عرفا في مجموعة أو قبيلة ، فذاك لا يعني أنه عادة جماعية، بل هو في الغالب عادة عند بعض أفرادها وتنسب الصفة إلى القبيلة مبالغة في ذم الفعل واستقباحه، ودفعا إلى تصحيحه والإعراض عنه.
واغتنم رولفس فرصة حديثه عن سلب الغناميين للمسافرين المحليين والأجانب ليصدر بعض الأحكام التي تبدو مجانية وجائرة، من ذلك قوله "والذي أعرفه جيدا أن اليمين عند المسلمين لا يلقى احتراما مقارنة بنا نحن المسيحيين، فهي عندهم كلمة تقال باللسان دون أن تراعى حرمتها"[23] ويصرح في موضع آخر بأن الغنانمة " لا يحترمون قواعد دينهم الإسلامي، فهم ينتهكون حتى حرمة شهر رمضان، ولا نجد إلا ثلاثين رجلا منهم يحترمون قواعد الدين، أي بنسبة واحد منهم بكل قصر من قصورهم! "[24] ولا ندري كيف استطاع رولفس أن يصل إلى هذا الحساب الدقيق، وهذا الاستنتاج القاطع، فمن الشائع أن البيئة التي يتحدث عنها محافظة وتقليدية في إسلامها، وتحرص كثيرا على الالتزام الديني في عمومها؛ فلقد رأينا كيف عانت فرنسا في احتلالها للجزائر بفضل الوازع الديني القوي عند سكانها، إلى جانب الرفض الطبيعي لكل احتلال أو عبودية. ولكن يبدو أن رولفس عمم هذا الحكم على المسلمين في المقتبس الأول، وعلى الغنانمة في الثاني، انتقاما مما تعرض له أثناء رحلته من حين لآخر من اعتداء على نفسه وأغراضه.  
الضيافة وأهميتها لأجنبي غريب:
اعتمد رولفس على رسائل التوصية (lettres de recommandation) التي كانت توفر له قدرا من الأمان، وتدعو الغير إلى ضيافته واستقباله. ولعل أهمها وأقواها رسائل شيخ زاوية وزان[25]، ولعله في ذلك الوقت الحاج عبد السلام بن العربي، المتوفى سنة 1892م، وقد عَرفت الزاوية في عهده توافد الناس من جميع المناطق ومن مختلف الشرائح الاجتماعية طلبا للأمان أو الصلح أو ما يحقق المصلحة. وبحسب مذكرات رولفس، فقد حصل على مجموعة من رسائل التوصية، بحسب المناطق التي يحل بها، وبما أن زاوية وزان كان لها تأثير كبير في مناطق شاسعة من المغرب والجزائر، فقد كان لتلك الرسائل مفعول قوي في نيله الحماية والضيافة معا. وقد عبر عن ذلك قائلا: "أما شيخ زاوية وزان الذي يسكن هنا ببني عباس، فقد أكرمنا ببعض الفواكه التي تنتجها الواحة، وأحسن ضيافتنا وقد دفعت إليه رسالة توصية كتبها له شيخ زاوية وزان بخصوصي."[26] وهكذا ارتبط ضمان الأمان بالضيافة بشكل آلي عند الذين نزل عندهم رولفس، ذلك أن من عادة العرب وساكنة الصحراء عموما إكرام الضيف متى اطمأنوا إليه واطمأن إليهم، بل نقلت لنا أخبارهم أنهم ربما أكرموا ضيفهم دون أن يعرفوا عنه شيئا، دلالة على تقديمهم خصلة الكرم حد التقديس.
ويتكرر الأمر عندما ينزل بزاوية كرزاز فيلقى الترحاب والضيافة اللائقة والصداقة الدافئة، يقول في هذا: "عندما استقبلني شيخ زاوية كرزاز، سلمت له عدة رسائل توصية بخصوصي، فرغم أن هذا الشيخ ليس له اهتمام بالحضارة..إلا أنني وجدت عنده ضيافة حسنة ومحبة لي، وحتى الآن لم ألق منه إلا خيرا رغم أنني لم أقدم له حتى الآن أية هدية."[27] ما يؤكد أن تلك الرسائل نجحت في توفير أمنه وسهلت مسلكه، وفي أسوء الأحوال لم يتعرض بفضلها للأذى، مثلما حدث له لاحقا، فقد ضيق عليه الطبيب التلمساني سالف الذكر حتى أقنع شيخ زاوية كرزاز بتغيير موقفه منه، بالإلحاح على جاسوسيته، فأخذت الضيافة تتضاءل شيئا فشيئا إلى أن لمح له بضرورة المغادرة إلى توات، دون أن يمنحه ضمانا بسلامته، لكن دون أن يؤذيه.[28]
على أن المؤكد أن الضيافة ليست حكرا على العرب، فكثير من القرى والمداشر التي مر بها رولفس أمازيغية أو بربرية، ووجد بها من الكرم ما شجعه على إتمام سعيه، على شاكلة دوار (آيت شَبْسي)، الذي يقول عنه:" ورغم أنه من أمة البربر إلا أنهم أحسنوا استقبالنا، فبقينا عندهم كل نهار اليوم الموالي."[29] وليس ذلك بغريب، فالعرب والأمازيغ يتقاسمون العادات والتقاليد وكثيرا من مظاهر الحياة الاجتماعية منذ الفتح الإسلامي، حتى اندثرت الفوارق بينهم عدا اللسان الذي يعبر عن الحال.
خاتمة:
تعد مذكرات غيرهارد رولفس وثيقة تاريخية واجتماعية وجغرافية مهمة جدا، وبخاصة بالنسبة لمنطقة الساورة التي تحتاج [30]إلى كثير من الأبحاث والدراسات الكاشفة عن معلومات كافية تمهد لكتابة أوسع  لتاريخها وطبيعة حياة سكانها. ويجد الباحث في بعض الكتابات الغربية ما يشجع على ذلك غير أنها تنتظر من يترجمها ويحلل محتواها ويدرسه، قصد تشكيل رؤية صادقة عن منطقة عبور مهمة في اتجاه الصحراء الكبرى.
وعلى الرغم من أن مذكرات هذا الرحالة تتحدث عن رقعة جغرافية أكبر بكثير من منطقة الساورة، إلا أن هذه الورقة اكتفت بالرحلة التي امتدت من تافيلالت إلى كرزاز، وفي زاوية محددة هي رصد جملة من الصور الاجتماعية التي نقلها غريب عن المنطقة، ويمكن للباحثين أن يجدوا في تلك المذكرات معارف شتى وجوانب حياتية جمة صالحة الدراسة والتمحيص.
ويمكن في ختام هذه الأسطر الخروج بجملة ملاحظات تتلخص في الآتي:
-       استطاع قيرهارد رولفس رصد مجموعة من العادات التي ميزت منطقة الساورة، وهي عادات ما تزال شائعة حتى الآن، إلى درجة أن القارئ العارف بهذه المنطقة ليجد سهولة في استيعاب تفاصيلها، غير أنه نقلها من منطلق مصلحي نفعي خالص بحكم كونه غريبا وطالبا السلامة التي توصله إلى هدفه.
-       إن الأحكام التي أصدرها بخصوص تصرفات الأهالي سواء الإيجابي منها أو السلبي هي أحكام نسبية لا تقبل التعميم أو الصحة المطلقة، بل قد يكون أغلبها صادر عن ردة فعل لما عانى منه الرجل من متاعب؛ فهي تخضع للظروف التي تتغير من زمن لآخر، ومن أشخاص لآخرين.
-       من حق هذا الرحالة أن يختبئ خلف شخصية مزيفة، لكن ليس من حقه أن يذم مخاوف الأهالي وحذرهم من الغرباء، وبخاصة أن الفترة تمثل بدايات وصول المستعمر الفرنسي إلى المنطقة، كما أن صورة الأوروبي في المخيال الاجتماعي سلبية لارتباطها بالكفر عقائديا والظلم سياسة، فالحروب الصليبية وما تلاها وإن كانت أحداثها بعيدة زمنا ومكانا، فإن آثارها المعنوية عمت بلاد الإسلام كلها.
-       إن الظرف التاريخي الذي أطر هذه الرحلة يعكس انعدام عوامل الدولة المدنية المنظمة، وهو ما يفسر وجود سلطة القبيلة وما ينجر عنها من عادات مختلفة تبعا لتصرف فروع القبائل أو المنشقين عنها.
-       يُضاف إلى ذلك عامل البيئة الفقيرة القاسية، التي تشجع مظاهر السلب والنهب وخصوصا ضد الأجانب بحكم عدم انتمائهم لقبائل تدافع عنهم. وقد اعترف الكاتب بهذا عندما أرجع سلوك الغنانمة إلى وجودهم في منطقة قليلة الموارد الزراعية.
-       إن الأوصاف الجغرافية والإثنية الدقيقة التي تضمنتها مذكرات رولفس تدل على أنها تصلح لتكون وثائق ذات طابع عسكري إلى جانب كونها استكشافية سواء قصد كاتبها ذلك أم لم يقصد. 

هوامش:




المقال منشور بمجلة آفاق علمية / المركز الجامعي لتامنغست . العدد 11 عام 2016