الأحد، 24 يناير 2016

المخطوطات في منطقة تمنراست ومشكلة التلقي


د. رمضان حينوني
أستاذ محاضر(أ)
مخبر الموروث العلمي والثقافي لمنطقة تمنراست
المركز الجامعي لتامنغست (cu1101)


مقدمة:
يشكل المخطوط عند كل أمة تراثا علميا وثقافيا يحافظ عليه بشتى الطرق الممكنة سواء أكان أصليا قديما أو منسوخا عن النسخة الأصلية لما له من قيمة في تثمين جهود القدماء في التأليف، ولما يحتويه من مادة صالحة للنظر والدراسة. الأمر الذي جعل المخطوط يحظى بمكتبات خاصة بل وبمعاهد ومختبرات تهتم به وتكشف عن كنوزه في مجالات مختلفة.
ولقد رأينا كيف استغل المستشرقون المخطوطات العربية القديمة في شتى العلوم ودرسوها واستفادوا منها، فكانت جزءا من أسباب نهضتهم العلمية والفكرية، في الوقت الذي كان فيه العرب المسلمون يصارعون الظروف الصعبة للخروج من التخلف والاستعمار وصنوف المعاناة التي جعلتهم يستيقظون على واقع مأساوي في بداية القرن العشرين.
وفي الجزائر، لا نكاد نجد مدينة أو قرية تخلو من مخطوطات، وخصوصا في الأماكن التي شهدت نشاطا علميا وعرفت بمساجد عريقة أو زوايا أو مدارس وجامعات عتيقة. وعلى الرغم من أن مدينة تمنراست ليست حاضرة علمية، إلا أنها كانت نقطة عبور للعلماء والفقهاء بين إفريقيا وتوات وشمال الجزائر، وكان من آثار ذلك وجود عدد من المخطوطات تتمحور في أغلبها حول العلوم الدينية والنحو العربي، ونجدها خاصة في خزانات بعض البيوت التي ورثتها عن القدماء، كما تتميز بكونها منجزا عربيا إفريقيا، شاهدا على الحركة العلمية التي ربطت بين منطقة توات في الجنوب الغربي والصحراء الكبرى وحواضرها العلمية التاريخية..
لكن الملاحظ أن المخطوط بها يتعرض لمجموعة من العوامل التي قد تؤدي إلى اندثاره قبل أن يصل إلى أيدي الدارسين لتحقيقه والاستفادة منه، لأن معاملة المخطوط على أنه عملة نادرة يغلق عليها الأبواب ويمنع الاقتراب منه، حول صورته من كونه حاملا للعلم والمعرفة إلى كونه شيئا للذكرى والماضي فقط، وهنا تكمن المشكلة.
والإشكالية التي نحاول معالجتها في هذه الورقة تتلخص في الأسئلة الآتية:
-         هل تنفصل وضعية المخطوط في منطقة تمنراست عن وضعية الكتاب عموما من حيث التلقي والمقروئية في ظل ما تشهده الساحة الثقافية من سيطرة للوسائل السمعية البصرية؟
-         وفي المجال البحثي، هل يمكن تحميل مالكي المخطوطات مسؤولية إهماله من خلال منع  المتلقي من الوصول إليه، أم أن المتلقي أو الباحث المحلي هو الذي لا يسعى  إليها ولا يملك  الإرادة الموصلة إلى تحصيله وتحقيقه في ظل تراجع هذا العمل العلمي أمام الاشتغال على الوثائق الحديثة؟
صورة الكتاب في الواقع الثقافي الحالي:
لا نستطيع الحديث عن وضعية المخطوط في منطقة تمنراست بمعزل عن وضعية الكتاب عموما من حيث نسبة وطبيعة الاستهلاك عند فئة المتعلمين والمثقفين، فالكتاب يعاني تهميشا واضحا في ظل ترتيبه في آخر الأولويات. ولقد كانت هذه الوضعية الأليمة طبيعية ومفهومة في العقود الأولى من الاستقلال بحكم انتشار الأمية التي خلفها الاحتلال الفرنسي داخل المجتمع، لكن بعد أن انتشر التعليم ودُعم الكتاب لفترة طويلة وسُهل وصوله إلى أنحاء البلاد المختلفة، لوحظ إقبال محتشم مقارنة مع ما كان يجب أن يكون عليه الحال في بلد يسعى إلى نهضة علمية يعوض بها ما حدث في فترة الاحتلال الطويلة والمؤلمة من تجهيل وقضاء على مقومات الأمة علميا وثقافيا.
ولقد حاولت دراسات عدة الوقوف على أسباب ضعف المقروئية عند الإنسان الجزائري يمكن تلخيصها في الآتي:
-         ضعف قدرة الفرد الجزائري الشرائية، وكثرة المستحقات التي يلتزم بها مثل الفواتير والضرائب والديون وغيرها، ما يجعل ثمن الكتاب يبدو باهظا، خصوصا بعد أن رفع الدعم عن استهلاك الكتاب؛ فكتاب واحد بسعر 1000 دينار جزائري قد يشكل نسبة خمسة إلى عشرة بالمئة من الدخل الشهري لكثير من شرائح المجتمع ، ما يثنيها عن شرائه بشكل منتظم.
-         بقاء نسبة الأمية التي تضرب المجتمع عالية مقارنة مع المجتمعات المماثلة التي تخلصت سريعا منها وانتقلت إلى مرحلة التنمية؛ وخصوصا في الجنوب والمناطق النائية التي لم تستطع التخلص من بساطة العيش والتقوقع على التقاليد  الموروثة.
-         محدودية الدور الذي تؤديه دور النشر الجزائرية في توفير الكتاب العلمي الذي يهتم بالفكر والعلوم والثقافة، إذ ما يزال الاهتمام منصبا على الكتب المدرسية والكتب التجارية أكثر من غيرها، وهي كتب مناسباتية أو إشهارية تجارية لا ترسخ الأفكار ولا تستطيع أن تؤثر في بنية المجتمع الفكرية.
-          ضعف ثقافة الكتاب أمام الميل إلى اقتناء المستلزمات الحديثة والأجهزة التي توفرها التكنلوجيا عالية الدقة، والمواد الإلكترومنزلية التي حولت البيوت إلى قصور، بينما يقبع الكتاب إن وجد في رف كعنصر من عناصر الزينة، لا كسلطان يؤثر ويوجه ويبني العقل والروح.
        يضاف إلى ما سلف ذكره من أسباب ضعف الإقبال على الكتاب اعتماد كثير من المتعلمين والمثقفين على وسائط التواصل الإلكترونية التي غزت البيوت ومراكز العمل والبحث. ويمكن ألا يكون ذلك سلبيا إذا كان مرتبطا بقراءة جادة للمحتويات التي تفرغ في المواقع الإلكترونية المختلفة ومراكز التحميل والمكتبات الإلكترونية. لكن الملحوظ عند كثير من مستعملي الإنترنيت أن التعامل مع تلك الوسائط لا يعدو أن يكون استعمالا بغرض المعرفة العامة أو الاقتطاع المعرفي من أجل إنجاز دراسات أو بحوث سطحية أو ذات نتائج محدودة.
ولقد تأثر المخطوط كما تأثر التراث الشعبي وهما متقاربان من حيث ارتباطهما بالماضي والعناية الفردية بهذا الانتشار الواسع لوسائط الاتصال، من تلفزيون وانترنيت وغيرهما، خصوصا من ناحية إبعادهما عن بؤرة الاهتمام العلمي لصالح الصورة الحديثة ومعطيات الواقع الشاخصة للعيان، ذلك أن " المعطى الفني القولي الذي تقدمه هذه الأجهزة يزيح الموروث الشعبي الشاهد المتوارث  تماما ليحل محله قائما بوظيفة في التعبير والإمتاع معا، ويساعد على هذه ما لهذه الوسائل من طبيعة جماهيرية، أي إنها تتم عن طريق الاتصال بالمجاميع لا بالأفراد، عكس الكتاب الذي هو وسيلة فردية في التلقي والعطاء."[1]
وعلى العموم، علينا أن نتصور أن الحداثة ومقتضياتها تقودنا يوما بعد يوم إلى الابتعاد عن إرث الأجداد، فإذا كان الزمن يفعل ذلك طبيعيا، فإن الحداثة تسرع الوتيرة، وتربطنا أكثر بالآني الجاهز أكثر مما تشجعنا على العودة إلى الوراء والتأمل في بعض ما خلفته الأجيال من علم أو فكر أو فن. إن تحول العالم اليوم إلى قرية صغيرة تتداخل فيها الثقافات وتتوحد فيها كثير من الرؤى الفكرية يشكل مصدر" الخطورة على الذاتية الثقافية للشعوب بعامة، ولنا كشعوب عربية بوجه خاص"[2]، إذ يجعلنا نوجه اهتمامنا أكثر إلى العالمي بدل المحلي، وإلى الموحد بدل المختلف، وإلى الجديد بدل القديم، بضغط من منطلق التفوق الذي هو ناتج أساسي للهيمنة الغربية على العالم.
المخطوط التراثي في تمنراست:
لقد كان الهقار معبرا للحركة العلمية بين حواضر الشمال وحواضر جنوب الصحراء، خاصة حاضرتي تمبكتو وجنى، واستفاد من حركة الكتب وال مخطوطات التي بقي جزء منها عند بعض الأسر تتوارثه كنزا علميا شاهدا على اهتمام أهل المنطقة بالعلم. ففي شمال الهقار كانت توات مركزا علميا هاما، تعج بالأحداث والحركة على أصعدة شتى، فسايرتها حركة علمية غاية في النشاط، فقد ظهر بها الشيخ محمد المغيلي التلمساني فلعب دورا أساسيا في نهوض التعليم والفقه والقضاء، كما ظهر بها الكنتيون الذين ملأت مؤلفاتهم آفاق المنطقة، وعرفوا في حقول التعليم ونشر اللغة العربية والتأليف في العديد من المصنفات اللغوية والفقهية والأدبية.
 ويعد الشيخ المختار الكبير الكنتي، ومحمد بن بادي الكنتي، والشيخ محمد باي بن عمر الكنتي، أكثر وأشهر من ترك مخطوطات عدت من المراجع الهامة لطلاب العلم، ودلت على اجتهادهم وإخلاصهم لدينهم ولثقافتهم الإسلامية. وفيما يأتي نماذج من مخطوطات هؤلاء الثلاثة على سبيل المثال لا الحصر:
-         المختار الكبير وهو أكثرهم تأليفا على الإطلاق، وله شرح (سورة الفاتحة) و (البرد الموشى في قطع المطامع والرشى) و( فقه الاعيان في معرفة حقائق القرآن والسنة) و( الجرعة الصافية في النفحة الكافية) و( كشف الشبهات) و( جذوة الأنوار السلم ا|لأسنى إلى معرفة أسماء الله الحسنى)، وغير ذلك كثير.
-         محمد بن بادي الكنتي وهو غزير الإنتاج كذلك، وله:(النوازل) و(منظومة زينة الفتيان) و (كتاب الشموع الطوالع) و (مصلح الدارين) و(نظم مختصر خليل) و (حقائق الارشاد والتنبيه على فساد العقد قبل الحكم بفسخ المختلف فيه) و(البدع المفيد في أحكام قواعد الدين الأكيد)، وسواها.
-         الشيخ محمد باي بن عمر الكنتي وله: (النوازل) و (شرح الأحاديث المقرية) و (شرح مبطلات خليل) و (قواعد الدين الخمس)، وأخرى.
وعلى الرغم من أن ثلاثمائة وتسعة عشر(319) مخطوطا التي يحصيها دليل المخطوطات الذي أعدته مديرية الشؤون الدينية لولاية تمنراست[3] ليست بالعدد الكبير مقارنة بخزائن المخطوطات في مناطق أخرى، إلا أنه عدد كاف لينتج دراسات وتحقيقات تستخرج كنوزه، وتظهر علومه إلى الطلاب والدارسين والمهتمين بحقوله المعرفية، لو يجد من يقوم بهذه المهمة النبيلة؛ فالمخطوط ليس كتابا قديما نتباهى باقتنائه فقط، بل هو إرث الأجداد العلمي إلى الأبناء، وعليهم مسؤولية نشره ودراسته.
         تختلف المخطوطات في الخزائن السالفة الذكر في حجومها ومجالاتها وقدم كتابتها، ونوضح ذلك في الملاحظات الآتية:
-         وجود نسبة كبيرة من المخطوطات تعود إلى مؤلفين كنتيين في الفقه والحديث ومجالات أخرى، مما يدل على نشاط علماء هذه القبيلة في التأليف والتدريس ونشر العلم، ولا غرابة في ذلك خاصة أنهم انتشروا في الأمصار واختلطوا بالعلماء من حواضر أخرى، فظهر فيهم أمثال الشيخ المختار الكنتي، كبير علماء كنتة.
-         جميع هذه المخطوطات، مع استثناءات قليلة جدا ، تصب في المجال الديني بفروعه المختلفة، أما ما يبدو مجالا مستقلا فمرتبط بالمجال الديني الأوسع أيضا ،كالتاريخ والنحو والرسائل. فالتاريخ مثلا في مخطوطاتهم مخصص في أغلبه لسير الرسول صلى الله عليه وسلم، وسير شيوخ العلم وشيوخ الزوايا، أما النحو فلا تخفى أهميته في العلوم الدينية لأن فهمها يتطلب التحكم في هذا العلم لتفادي الزلل في التفاسير والأحكام وغيرها. وأما الرسائل فهي إما نصائح موجهة إلى أفراد أو قبائل لإصلاح أمور المعاش والمعاد، وإما رسائل فقهية تعتمد البسط والتدليل والتحليل. وبهذا يكاد يكون العلم والتأليف في هذه الرقعة الجغرافية التي حددنا دينيا خالصا، لارتباطه ببيئة قدمته على سائر العلوم منذ الفتوح الإسلامية لبلاد المغرب.
-         تتضمن المخطوطات في خزائن تمنراست عددا من المخطوطات المشرقية الشهيرة، وهذا دليل على أن الحركة التأليفية في هذه المنطقة كان لها ارتباط بالعلوم التي أتت من المشرق عبر القوافل التجارية، مع بعض إضافة خاصة بالمذهب المالكي الذي اعتمد في المغرب العربي على نطاق كبير.
-         إن نسبة هامة من هذه المخطوطات قد تم إعادة نسخها  بالطريقة التي كتبت بها، لأن كثرة تداولها، والاعتماد الكلي عليها في التعلم والتعليم كان يعرضها باستمرار لتلف أجزاء منها؛ بل إنه من المألوف الآن أن تجد افتقادا لورقات أو لجزء من هذا الكتاب أو ذاك، فيضطر الباحث إلى البحث عنها في نسخ أخرى قد تكون في صحاري النيجر ومالي، كما حدث بالنسبة لكتاب السنن المبين لباي الكنتي مثالا.
إشكالية تلقي المخطوط في تمنراست:
لقد كان المستشرقون وعلماء العرب أول من التفت إلى التراث العربي المخطوط، فقد حصلوا عليه بطرق عدة بغرض الاطلاع على الفكر العربي ومن ثم دراسته وتسخيره إما للنيل منه أو للاستفادة من رصيده المعرفي خصوصا في التخصصات العلمية. وفي عصر النهضة العربية في القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين بدأ اهتمام بعض العرب والمسلمين بالمخطوطات التي وجدوها في بلدانهم أو وجدوها في مراكز البحث الأوروبية، فشيدت بعض مراكز تحقيق المخطوطات في مناطق مختلفة من العالم العربي والإسلامي.
أما في الجزائر، فلم تكن الحال مختلفة، فقد بدأ الاهتمام بالمخطوطات بعد الاستقلال مباشرة، فقام الديوان الوطني للمخطوطات، والمكتبة الوطنية بدور مهم في إحصاء المخطوطات الجزائرية والحفاظ عليها وإتاحتها للدارسين. أما على مستوى الجامعات، فقد لوحظ توجه كثير من الأبحاث إلى المخطوطات وخصوصا في العلوم الإنسانية والدينية تحديدا، ولقد تجسد ذلك في تشكل مخابر البحث التي تعنى بالمخطوط نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر: مخبر المخطوطات الجزائرية بغرب إفريقيا في جامعة أدرار، ومخبر المخطوطات في الجلفة، مخبر دراسة الموروث العلمي الثقافي لمنطقة تمنراست بالمركز الجامعي لتمنراست، الذي يحاول رغم حداثته أن يولي المخطوطات المحلية شيئا من العناية من خلال الفرق البحثية التي تشكلت في إطاره.
بيد أن المخطوطات في تمنراست وضواحيها تعاني من مشكلة في التلقي لأسباب عديدة، ذلك أن أول ما يلفت الانتباه هو النظر إليها بوصفها تراثا شعبيا، أي أنها جزء من التاريخ وما خلفته يد الإنسان مثلها مثل الأدوات المادية التي يحتويها متحف أو قاعة عرض، وهذا خطأ كبير؛ أولا لأنها تراث غير مادي، وثانيا لأنها تحمل فكرا وعلما خصوصا تلك التي ألفها علماء وفقهاء المنطقة. ومن حق الأجيال المتعاقبة أن تستفيد منها وتهتم بها اعترافا بصنيع علمائنا وفقهائنا الذين أناروا دروب الجهل التي كانت مخيمة على المنطقة في فترات معينة.
وقد نتج عن هذه الوضعية صعوبة الحصول هذه المخطوطات التي تتوزع على مناطق متفرقة من ولاية تمنراست، لأن أصحابها خوفا من ضياعها يمنعونها عن كثير من طالبيها، أو طالبي تصويرها للاشتغال عليها، فقيمتها التاريخية– عند بعضهم – تفوق قيمتها العلمية أحيانا[4]، وبهذا حرم الدارسون من عدد لا بأس به من المخطوطات التي لا نجدها في المركز الوطني للمخطوطات، أو مديريات الثقافة أو المكتبة الوطنية وهي التي تحصي مجتمعة ما مجموعه بحسب التقديرات خمسة وثلاثين (35) ألف مخطوط[5]، في الوقت الذي تقدر فيه بعض المصادر أن يكون العدد الإجمالي للمخطوطات أكبر بكثير نتيجة لعدم رغبة مالكيها في تسجيلها أو تمكين المهتمين بها من الاطلاع عليها.
لكن اللوم لا يوجه إلى أصحاب خزائن المخطوط فقط، بل إلى الدارسين وطلبة العلم ممن يعرضون عن المخطوط بحجة صعوبة التعامل معه وقلة الإمكانات التي تساعد في تحقيقه؛ إضافة إلى التوجه إلى الكتب المطبوعة الجاهزة لإعداد البحوث الجامعية، حتى وإن كانت في كثير منها تكرارا لبحوث سابقة. فالأستاذ الجامعي الذي يدخل المخطوط المحلي في دائرة اختصاصه أو مادته التي يشتغل عليها لا يوجه الطلبة إلى البحث في المخطوطات المحلية، على الرغم من توجيهه إياهم إلى بعض الموضوعات الشعبية التي تدخل في إطار التراث.
غير أن الموضوعية تقتضي منا أن ننبه إلى أن المجال البحثي على مستوى المركز الجامعي لتامنغست مثلا حديث وضيق، فهذه المؤسسة الجامعية وإن كان مطلوبا منها أن تؤدي الدور الأهم في الحفاظ على تراث وعلوم المنطقة وخاصة المخطوطات المتواجدة على مقربة منها، فهي صغيرة من حيث هياكلها وتخصصاتها، كما أن انطلاقة مسار البحث فيها حديث جدا مقارنة بالجامعات الكبرى، وبخاصة في مرحلة الدراسات العليا. غير أن ذلك ليس مبررا للطلبة والدارسين من خارج الولاية للتقاعس عن طلب هذه المخطوطات والاستفادة منها لمن تدخل في مجال اختصاصه.
من جهة أخرى يسجل غياب إرادة مجتمعية تعمل في مجال التحسيس بأهمية المخطوطات والعناية بها، ويدخل في هذا الإطار القيام بحملة تهدف إلى توعية ورثة المخطوطات بضرورة تقديمها إلى جهات تعمل على العناية بها. فالظروف التي يخزن فيها المخطوط في كثير من خزائن المنطقة سيئة جدا وبدائية، تؤدي في وقت ما إلى اندثاره نتيجة للعوامل الطبيعية من حرارة وفيضانات وتواجد الحشرات الآكلة للورق وغيرها، في حين تطلعنا الدراسات الحديثة على أن مخابر خاصة بالمخطوط بمقدورها ترميمه والحفاظ على مادته. ويمكن لوزارة الثقافة أو وزارة الشؤون الدينية والأوقاف أو وزارة التعليم العالي أن تلعب دورا حاسما في هذا الأمر بحكم علاقة المخطوط بمجالاتها ومصالحها؛ فالأولى بحكم اهتمامها بكل ما هو مثقف أو يحمل قيمة ثقافية وتاريخية، والثانية بحكم كون عدد كبير من المخطوطات ذات اهتمام بالذين في مجالاته المختلفة من فقه وفتوى وتفسير وحديث وغيرها، أما الثالثة فلكونها حاملة لواء البحث العلمي والقادرة على تنظيمه وتأطيره، إضافة إلى ما يمكن أن تقدمه الجمعيات الثقافية من عون في هذا المجال لقربها من المواطن.
خاتمة:
ما من شك في أن وضعية المخطوط في أقصى الجنوب الجزائري لم تواكب بعد ما استجد من وسائل الحفاظ عليه، فهو عرضة للإهمال والضياع إذا لم يجد من ينقذه من هذا المصير السيء بالنسبة لتراث نفيس ذي قيمة علمية وثقافية، ولا يكون ذلك إلا من أهله أولا ثم من المهتمين بدراسته وتحقيقه وإخراجه من بين جدران النسيان. فحين يخرج المخطوط إلى النور، يكون قد حقق جدواه وأكد حياته، إذ لا حياة لما يعزل عن التناول، ويبعد عن النظر في محتواه، ويحرم من التعرف إليه وإلى ما قدمه كتابه ومؤلفوه من الجهود العلمية التي يحتاج إلى كثير منها رغم انتشار الكتاب الحديث المطبوع.
فالتلقي هو الذي يضمن للمخطوط بقاءه ويكشف عن قيمته، كما أنه دليل التواصل بين الأجيال التي يعترف من خلالها اللاحق للسابق بالسبق والفضل. على أن التلقي لا نعني به الدراسة الأكاديمية فقط، بل نريد به الاطلاع أيضا؛ لهذا يمكن لتصوير المخطوطات على نطاق واسع أن يسمح للمطلع بقراءته، سواء تعلق الأمر بالنسخ الورقي أو الإلكتروني، كأن تكون صورة لمخطوط معين في كل مرفق مطالعة كالمكتبة العمومية، ومكتبة دار الثقافة ومكتبة الثانوية أو الكلية أو الجامعة، وما إليها من أماكن احتكاك القارئ بالكتاب.
على أنه لا ينبغي إغفال وجود جهود تبذل في سبيل النهوض بالمخطوط في أماكن عدة من الوطن، لكنها غير كافية بالنسبة لمنتوج يتعرض للنسيان بوتيرة سريعة جدا أمام الهجمة الهائلة للمعرفة البديلة. فالهدف الذي يراد الوصول إليه هو أن يكون لكل مخطوط نسخة مطبوعة، ولكل مخطوط تحقيق يظهر مادته ويكشف عما فيه من الإشارات والدلالات، لعلنا بذلك نعيد الاعتبار لكتابنا وعلمائنا الذين عاشوا قبل انتشار الطباعة وصناعة الكتاب، ولعلنا نجد في علمهم ما يصلح للدراسة والمقارنة والتمحيص.    

هوامش: 




[1]    فاروق خورشيد. قضايا شعبية. 46 . مكتبة الثقافة الدينية- القاهرة . ط1 . 2003.
[2]   المرجع نفسه. 73
[3]  دليل المخطوطات الخاص بمنطقتي الأهقار والتدكيلت في نسخة غير مطبوعة رسميا أنجزت في أوت 2005.
[4]    ومع ذلك فإنه يلتمس لهم العذر، لأن كثيرا من المخطوطات ضاعت من أصحابها ولم تر النور بعد ذلك لا مخطوطة ولا مطبوعة أو محققة.
[5] ينظر: استطلاعا قامت به صحيقة الفجر بعنوان" المخطوطات في الجزائر.. كنوز بلا حراس" على الرابط    http://www.al-fadjr.com/ar/index.php?news=182258%3Fprint

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق